في هذه المواجهة المصيرية التي تخوضها الشعوب العربيّة، من الطبيعي أن يكون لبنان في الطليعة. مرّة أخرى يلمع نجم وزير خارجيّته جبران باسيل الذي كان أول من أمس، في ما يسمّى بـ«الجامعة العربيّة»، صوت فلسطين، وحامل راية القدس. لقد هزّ أركان الصرح المتهاوي، وكسر رتابة الديبلوماسيات العقيمة التي تخدم غالباً مصالح أنظمة تعسّفية رجعيّة، وأجندات استعماريّة.
وقف منتهراً العرب والعالم، مخاطباً التاريخ، صارخاً في وجه الضمائر المخدّرة، أو المنصاعة، أو المنباعة. باسيل، ممثل الارادة اللبنانية الموحّدة، ذهب إلى القاهرة ليحرج الجميع: القدس كرامتنا، وفلسطين هي البوصلة، قال. أنا اللبناني، آتياً من مشروعي الوطني، من بيئتي و«خصوصيّتي»، في بلد «الخصوصيّات» التي لا تنتهي ــ هذا البلد الذي ظننتموه هشّاً ومنقسماً، ففاجأكم بقوّته ووحدته ــ أقولها لكم، أقولها عنكم، عن كل العرب والمسلمين. إذا كنتم لا تجرأون، ولا تريدون، ولا تستطيعون، فأنا الآتي من البلد الذي أنجب مقاومة كسرت أسطورة التفوّق الاسرائيلي، أجرؤ وأريد وأستطيع: القدس كرامتنا وفلسطين هي البوصلة.
ليس من المستغرب أن يقف لبنان الموحّد في الصدارة، من أجل القدس. ولا أن يصبح وزير خارجيّته، بين ليلة وضحاها، بطلاً لدى الفلسطينيين يهتفون بإسمه، وزعيماً عربياً يحيّيه المتظاهرون في المدن العربيّة الغاضبة. إنّها رحلة الخروج من الغيتو إلى الأمّة، تتواصل وتتكرّس. أليست تلك رسالة لبنان النهضويّة، ورسالة البيئة التي خرج منها باسيل تحديداً، وهي معروفة بدورها الريادي منذ القرن السادس عشر وصولاً إلى عصر النهضة: أن ترفع راية العروبة والتنوير؟
وفي الاتجاه نفسه جاءت بالأمس «تظاهرة عوكر». التظاهرة الاحتجاجيّة الذي دعت إليها أحزاب ومجموعات وطنيّة ويساريّة وقوميّة لبنانيّة، بالاشتراك مع القوى السياسية الفلسطينيّة المختلفة، أمام سفارة الاستكبار الأميركي في لبنان، لإعلان الغضب الشعبي، والرفض الكامل لقرار «تجيير» القدس إلى الاحتلال الاسرائيلي. أي بمعنى آخر، «تصفية القضيّة الفلسطينيّة» كما قال، حنا غريب، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، من عوكر، متلفعاً بالكوفيّة الفلسطينيّة. وكان من الطبيعي أن يؤدّي «صهاينة الداخل» مهمّتهم، مضخّمين مناوشات وأحداث شغب هامشيّة محصورة، ومدانة، من النوع الذي تشهده كل التظاهرات السلميّة في العالم، لمحاولة تشويه التظاهرة وإجهاضها. لقد حوّلت احدى المحطات حركة الاحتجاج الواسعة، والشرعيّة، والسلميّة، ضد القرار الأميركي المنافي للقانون والتاريخ والشرعيّة، والمتعارض مع الاجماع الغربي، حوّلته إلى «اعتداءات الفلسطينيّين على الجيش اللبناني»! يا لهؤلاء الفلسطينيين: «ندافع عنهم ويعتدون علينا»! ويظنون أن «طريق فلسطين تمرّ في الضبيّة»! من المؤسف طبعاً أن يكون انجرّ إلى الفخّ، بعض الأصوات التي لم تتخلّص من ترسّبات «الانعزاليّة» القديمة. كأن هؤلاء لم يسمعوا خطاب جبران الباسيل، ولا ينتمون إلى مواقفه الوطنيّة. «عوكر ليست غزّة» صرّح أحد النوّاب. وهذا التصريح المخجل الذي ينضح عنصريّة وجهلاً، يفترض أوّلاً أن «غزّة» تهمة أو شتيمة، ويزكي نار العصبيّات والانقسامات، ويؤجّج الحقد الأهلي، ويسمم الرأي العام بشوفينيته، ويبيع القدس بحفنة من الأصوات الانتخابيّة. غزّة التي أدماها الاحتلال الاسرائيلي، موجودة في كلّ مكان، وهي مثل القدس عاصمة فلسطين، جزء من كرامتنا. كما أنّها لا تتناقض مع كرامة سكان عوكر، وسكينتهم، وأرزاقهم. وبعض التجاوزات المدانة، كما هو هو مدان القمع البوليسي المبالغ فيه وغير المبرر، ليست سبباً لتحوير الاهتمام عن القدس. وعلى فكرة، من فرّط بسكينة عوكر هو الدولة اللبنانيّة التي قبِلت بشراء الولايات المتحدة قطعة أرض هائلة فيها، كي تبني عليها شيئاً ما، «مدينة ملاه» مستقبليّة ربّما!
هنا تبدو هشاشة الموقف المعادي لأميركا في لبنان. أميركا المسؤولة عن جرائم «إسرائيل» منذ سبعين عاماً، وليس فقط منذ موقف ترامب الأهوج… أميركا التي لا يسلّح جيشَنا غيرُها، ولا يدرّب جيشَنا غيرُها. أميركا التي اتهم حنا غريب إدارتها، بأنّها «هي التي تعمل على توطين الفلسطينيين في لبنان وإلغاء حق العودة». والتي دعا إلى «وقف كل برامج التعاون معها وطرد سفرائها، وإغلاق القواعد العسكرية على الأراضي العربيّة»… مؤكّداً أن مبدأ «النأي بالنفس» يسقط في مثل هذا اللحظة المصيريّة، وداعياً إلى «المقاومة العربيّة الشاملة».
نعم، نحن أمام منعطف تاريخي، مهما حاول «سفراء النيّات الحسنة» على اختلاف مشاربهم أن يقلّلوا من أهميّة قرار ترامب وخطورته… لتعزيز خنوعنا واستسلامنا. هذا القرار «الشكلي» كما يردد لنا بعضهم، ستكون نتيجته المباشرة استحضار عشرات آلاف المستوطنين مع ما يترافق ذلك من مضي في سياسة التهويد ومصادرة الأراضي وطرد أهل المدينة منها بكافة الوسائل الاداريّة والارهابيّة. فبعد يومين على اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، قرّر «وزير الإسكان» في حكومة الكيان الغاصب الدفع بمخطط لبناء 14 ألف وحدة استيطانية فيها. وكشف إعلام العدو عن المصادقة الرسميّة الوشيكة على المخطط الاستيطاني الذي يتضمّن بناء 7 آلاف وحدة سكنية في مستوطنات شرقي القدس. هذه المواجهة مع أميركا ستكون الأخيرة: إذا تخاذلت الشعوب العربيّة، لن يبقى لنا شيء لا فلسطين، ولا حقوق، ولا كرامة. القدس هي عاصمة الكرامة والعدالة في العالم اليوم. ولا بدّ من الدفاع عنها، ومن مواجهة الوحش الأميركي بكل الوسائل الممكنة. هذا ما يقوله الناس في الشارع. مئات الآلاف، بل الملايين، في الشارع. ويجب أن تتواصل التحرّكات ويتعاظم الغضب الشعبي. بالأمس عمّت التظاهرات العالمين العربي والاسلامي، اضافة الى تحركات عدّة في المدن الغربيّة: في تركيا مشى الملايين، في المغرب وتونس والجزائر. في الأردن ومصر. في إندونيسيا. في قطاع عزّة، وفي الضفّة حيث «تنسّق» سلطة أبو مازن مع العدو لاحتواء كل أشكال الانتفاضة واجهاضها، وفي القدس نفسها عاصمة الجراح والآمال. أما في لبنان، فلم تكن تظاهرة عوكر إلا البداية، واليوم سيكون الموعد الكبير في الضاحية الجنوبيّة لبيروت.
أيّها العرب… هيّا إلى الشارع. لنعلنها مواجهة مفتوحة. لا بد من تواصل التظاهرات وتوسّعها. مطلوب الانتقال الى درجات أعلى من المواجهة، والقطيعة مع أميركا، وطرد سفرائها. هذه الخطوة أنظمتنا أجبن وأضعف من أن تأخذها من دون ضغط الشارع. أما إسرائيل، فتراهن على سرعة هبوط موجة الاحتجاجات وانحسارها، لتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي. وتتكرّس الجريمة بشكل لا عودة عنه. تلك أمنيات إسرائيل ورعاتها، بالتواطؤ مع بعض الحكام العرب، وفي ظل غياب مذهل للسلطة الفلسطينية. قال أبو مازن خطابه المائع ومضى، كأن الخطر المحدق هو في المجاهل الأمازونية أو في القطب الشمالي! أما نحن فنعرف جيّداً أنّها فرصتنا الأخيرة. معركتنا الأخيرة، إذا خسرناها سنخسر حقّنا في الوجود. نحن شعوب متروكة لأمرها، تعرف أن خلاصها الوحيد في المقاومة العربيّة الشاملة!