انشغلت الصحف والتلفزيونات، أخيراً، بمضمون تسريبات لمحاضر تحقيق أولية مع شخص اشتبه في تعامله مع العدو الإسرائيلي. ونقل إعلاميون عن ضباط تربطهم بهم علاقات وثيقة (من دون أن يسمّوهم طبعاً)، معلومات عن إفادات المشتبه فيه أثناء مرحلة التحقيقات الاولية.
التسريبات المزعومة لقيت اقبالاً واسعاً بين الناس، وكأنها فيلم سينمائي مشوّق أو رواية بوليسية مسليّة. وفيما برر البعض نشر «الاعترافات» وتقديرات أولية (وسطحية) عن دوافع الجريمة بواجب ردع كل من يفكّر بالتعامل مع العدو، تساءل البعض الآخر عن «مهنية» الصحافة في نشر كل ما يتوافر لها من معلومات، حتى ولو كان ذلك مخالفاً للقانون أو ذا أثر سلبي على عمليات رصد وتعقب عملاء آخرين ومشغليهم.
المشكلة ليست محصورة بمخالفة المؤسسات الأمنية والإعلامية لقانون المطبوعات وأصول المحاكمات الجزائية من خلال نشر معلومات من محاضر التحقيق قبل إحالة القضية الى المحكمة. كما أنها لا تقتصر على نسف قرينة البراءة إذ ان الجهة الوحيدة المخوّلة بالإدانة هي المحكمة المستقلة والعادلة التي تؤمن حق المتهم بالدفاع، وتتبع مساراً يحسم القضية باسم الشعب اللبناني بأسره، لا بمعية جهاز استخبارات أو بواسطة طرف ما. ومن البديهي التذكير بأن تحديد «الحقائق» وتعميمها على وسائل الاعلام ليس من وظائف الاجهزة الامنية والعسكرية، مهما بلغت صدقيتها وقوتها وتطور امكانياتها. فالعقد الاجتماعي المفقود في لبنان يقتضي حصر تحديد الحقيقة بالمحكمة المستقلة من دون غيرها. وعلى أجهزة الضابطة العدلية والنيابة العامة جمع الدلائل والقرائن التي تساعد على كشف الحقيقة والتي يمكن ان تأخذ بها المحكمة، او تتجاهلها اذا ما كانت قد جمعت خلافاً للقانون أو اذا تبين لها انها غير صحيحة. ولا بد من التوضيح ان النيابة العامة والأجهزة الأمنية والعسكرية تمثّل طرفاً في المحكمة، وبالتالي لا تتمتع بسلطة الحسم.

النيابة العامة
والأجهزة الأمنية والعسكرية تمثل طرفاً في المحكمة


المشكلة في أساسها ذات شقّين: الاول يستند الى خفّة تعامل المؤسسات القضائية والأمنية والإعلامية مع موضوع بمثل هذه الاهمية والخطورة نظراً الى تميّز أجهزة الاستخبار والاستعلام التابعة للعدو الإسرائيلي بموارد تكنولوجية فائقة التطور وبموارد بشرية مؤهّلة علمياً وباستراتيجية متكاملة؛ والثاني يتعلق بالثغرات القانونية ونوع العقاب والاخفاق في تنفيذه وفي تحقيق غاياته.
وقبل الاسهاب في عرض شقّي المشكلة، تنبغي الإشارة الى ان جهاز الامن ومكافحة التجسس الإسرائيلي في المقاومة، الذي تولى تحديثه وتطويره القيادي الشهيد مصطفى بدرالدين، عمل خلال السنوات الفائتة على جمع معلومات مفصلة وموثّقة عن موارد الاستخبارات الإسرائيلية، والمناهج والأساليب التي تستخدمها للتوغل في المجتمع اللبناني. كما طوّرت المقاومة أجهزة تحديد تواصل العملاء مع مشغليهم وطرق تهريب المعلومات والوسائل من فلسطين المحتلة واليها. وبفضل ذلك، تمكن حزب الله من مساعدة الجيش والسلطات القضائية اللبنانية في رصد العديد من المشتبه فيهم والقبض عليهم والتحقيق معهم وإحالتهم الى المحاكم. لكن مراجع الحزب تتطلّع الى تطور أداء مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والقضائية في هذا المجال، وتراهن عليه في المرحلة المقبلة. فلا رغبة ــــ ولا حكمة ــــ في اعتماد جهاز أمن المقاومة، مهما بلغ تفوقه، بديلاً عن مؤسسات الدولة مهما بلغ ضعفها. والدولة هي السلطة المركزية التي يحكم فيها القضاء المستقل باسم جميع اللبنانيين، ولها وحدها ان تضمن العدل والانصاف.

القضاء شبه غائب

تترك النيابة العامة أمر التعاطي مع الاعلام إما لوزارة العدل او لمؤسسات الضابطة العدلية. ولا يصدر عنها الا ــــ نادراً ــــ تعميمات إعلامية أو مقابلات مع الصحافة. وترد الأخبار عن الإشارات الصادرة عن النيابة العامة أو عن انتقال النائب العام الى مسرح الجريمة أو إشرافه على التحقيقات في بيانات قوى الامن والامن العام والجيش وأمن الدولة. ولا توجد موانع قانونية تحول دون إصدار النيابة العامة بيانات إعلامية أو عقدها مؤتمرات صحافية تشرح للعموم مسار الاجراءات وتنقل بعض المعلومات عن التحقيقات، اذا كان وراء ذلك ما يخدم التحقيق، مع التأكيد على قرينة البراءة.
لكن، في القضية الراهنة، بدا القضاء شبه غائب، واقتصر ذكره على جملة وردت في بيان المديرية العامة لأمن الدولة. فيما كان من الاجدى، نظراً إلى أهمية الموضوع وخطورته، ان يتولى القضاء الاشراف الكامل على كل الملف بما في ذلك ما يتم الإفصاح عنه للعموم، بعد دراسة كافة جوانب الموضوع. لا أن تنشر معلومات عن اعتراف الموقوف في اليوم الاول، ثم تنشر معلومات عن تغيير الاعتراف في اليوم الثاني. وتنشر مع ذلك التحليلات الاولية لضباط التحقيق بشأن أسباب تغيير المشتبه فيه لإفادته الاولية!
وفيما كان لافتاً تضمّن التسريبات الإعلامية اسم المشغّلة الإسرائيلية المفترضة، يصبح مشروعاً التساؤل: ألم يكن عدم الإفصاح عن معرفة أمن الدولة بهوية هذه المشغّلة أفضل لترك الاستخبارات الإسرائيلية حائرة في شأن حجم المعلومات التي تمكن المحققون من جمعها؟ وألم يكن من الأفضل توسيع التحقيق سرياً ليشمل مديرية المخابرات في الجيش والامن العام والمعلومات، تحت اشراف القضاء العسكري، في سعي لاستدراج المشغّلة الإسرائيلية الى لبنان أو الى مكان آخر للايقاع بها وكشفها بالصوت والصورة والدليل القاطع؟

لماذا التوقف عند أمن الدولة؟

ليست هذه المرة الاولى التي نشهد فيها تعميم جهاز أمني لمعلومات تم جمعها خلال التحقيقات الجنائية. وهذه التعميمات والتسريبات تنطلق، عادة، من نية صافية ورغبة في احداث ضجة إعلامية للإعلان عن انجاز كبير تحقّق بجهد كبير وتضحيات جمّة احياناً. فكيف اذا كان الجهاز المعني هنا في طور الخروج من أزمة عانى منها خلال المرحلة السابقة وأدّت الى اهماله والى تردد أخبار عن نوايا إلغاء وجوده بالكامل؟
تمكّن المديرية العامة لأمن الدولة من رصد تواصل شخص مع العدو الإسرائيلي وتوقيفه وإحالته الى القضاء بعد ختم التحقيقات الاولية هو انجاز، من دون أي شك. وتستحق المديرية التنويه والثناء عليه. علماً ان الامر، بالنسبة إلى ضباطها، يمثل أكبر من انجاز، هو اثبات وجود. لذلك، أصدرت المديرية بياناً للإعلان عن الإنجاز. وبهدف التأكيد على صدقيتها، ولتحديد حجم الإنجاز من خلال فداحة الفعل وشهرة المشتبه فيه، أضافت اليه معلومات يُفترض ان تبقى سرية عن هوية الموقوف واعترافاته الاولية.
ولكن، كل الاجهزة الأمنية الأخرى قامت بذلك في السابق، فلماذا التوقف هنا عند أمن الدولة؟

العقد الاجتماعي المفقود في لبنان يقتضي حصر تحديد الحقيقة بالمحكمة المستقلة دون غيرها

أولاً، هذه القضية هي مناسبة لعرض المشكلة والبحث في الإخفاقات في ملاحقة عملاء العدو الإسرائيلي في لبنان، ولا يجوز استهداف جهاز محدد. فالمسؤولية مشتركة بين القاضي والضابط والصحافي؛
ثانياً، المديرية العامة لأمن الدولة ، بحسب مراسيم تأسيسها وتشكيلها، هي أهم واقوى جهاز استخبارات لرصد تجسس العدو وتواصله مع اشخاص ضمن الأراضي اللبنانية. وبالتالي، هذا هو اختصاصها القانوني قبل أن يكون من اختصاصات فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي ومديرية المخابرات في الجيش أو المديرية العامة للأمن العام. كما أن المديرية تخضع، مباشرة، لمجلس الدفاع الأعلى (يترأسه رئيس الجمهورية ويكون نائب الرئيس رئيس مجلس الوزراء) لا الى أي من الوزارات؛
ثالثاً، رغم اعلان الإسرائيليين عن عدم رغبتهم في شن حرب على لبنان قريباً، يبقى المناخ الإقليمي والدولي مشجعاً للحرب ما يستدعي تنشيط الدولة العبرية عملها الاستخباري في لبنان في المرحلة الراهنة.

السبق الصحافي اولاً؟

لا شك في أن وسائل الاعلام في لبنان تتمتع بقوة لا يستهان بها بسبب وقوف عدد كبير من السياسيين الى جانبها في السراء والضراء، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية وحاجة هؤلاء الى تعميم اخبار حملاتهم الانتخابية. وبالتالي، يمكن ان تفلت محطة تلفزيون أو صحيفة من أي ملاحقة قضائية (قد لا ينطبق ذلك على الإعلاميين كأفراد خصوصاً اذا تمنّعت مؤسساتهم عن حمايتهم).
والتنافس بين وسائل الاعلام أمر طبيعي وتستخدم فيه مختلف الاسلحة والوسائل، ومنها ما لا يتناسب احياناً مع المعايير المهنية والأخلاقية والقانونية. والمثال على ذلك نشر محاضر التحقيق أو معلومات من محاضر التحقيق قبل إحالة القضية على المحكمة، ومن دون التأكد من صحتها من خلال مصادر أخرى، ونشر كامل هويات اشخاص مشتبه فيهم أو لهم علاقة ما بالقضية، وكلها امور مخالفة للمعايير المهنية الصحافية وللقانون.
فنشر خبر، مصدره الوحيد ضباط أمن واستخبارات، لا يتناسب مع أصول المهنة. أما التشهير من خلال نشر كامل هوية المشتبه فيه قبل الادعاء عليه قضائياً فينسف قرينة البراءة. وهذا الامر تكرر عشرات، لا بل مئات، المرات، وحصل في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والاغتيالات التي سبقتها وتلتها. فصدرت ادانات لأشخاص محددين قبل اكتمال التحقيق ورفعت صورهم ليس فقط في وسائل الاعلام بل في الساحات العامة، وتم التشهير بهم وبزوجاتهم وأولادهم وذويهم واصدقائهم. وتتحمل بعض وسائل الاعلام ولجنة التحقيق الدولية المستقلة بعضاً من المسؤولية عن ذلك من خلال نشرها أجزاء من محاضر التحقيق في تقاريرها العلنية، مثلما يتحمل بعض الاعلام والمديرية العامة لأمن الدولة اليوم نشر أجزاء من محاضر التحقيق في بياناتها.




بين الضباط والاعلاميين

العلاقة بين الضابط والصحافي هي علاقة تبادل تخدم الطرفين. فالضابط يستفيد من تعميم إنجازاته وافعاله الفردية من جهة وانجازات المؤسسة التي ينتمي اليها من جهة أخرى، والصحافي يحصل على معلومات حصرية وتفاصيل تتيح له تحقيق سبق وتقوده نحو النجومية. وبالتالي فان العديد من الضباط، خصوصاً باللباس المدني الذين يعملون في اطار التحقيقات الجنائية والاستخبارات، يجتمعون باعلاميين في مكاتبهم أو حتى في المقاهي والمطاعم والأماكن العامة للاتفاق على تبادل الخدمات. وتنشأ علاقة صداقة وود بينهما يراعي فيها كل منهما ظروف الآخر. فلا يتم نشر أسماء الضباط الذين يسربون المعلومات السرية الى الإعلاميين، وبموازاة ذلك يخفي الضباط في كثير من الحالات عن قيادتهم تسريب المعلومات الى جهات إعلامية. وتتردد القيادة في فتح تحقيق مسلكي في التسريبات خشية تعرضها لهجوم اعلامي لاحق.







السجن مدرسة العملاء

احيل ملف الشخص الموقوف حالياً بشبهة التعامل مع العدو الإسرائيلي الى المحكمة، وقد يتم سوقه من مكان التحقيق الى السجن المركزي في رومية أو الى أي من السجون الأخرى. هناك يرجح أن يلتقي بعملاء للعدو كانت قد صدرت بحقهم احكام بالسجن لعدة سنوات. وفي ذاك المكان الذي لا تتناسب ظروفه لا مع مقتضيات مرسوم تنظيم السجون (المرسوم 14310/49) ولا مع معايير العدالة والمعايير القانونية الدولية، قد يتم تدريبه بشكل افضل على الإفلات من التحقيق، وقد يتعلم الأساليب الاستخبارية ويتعرف الى مختلف أصناف المهربين والمزورين وأصحاب السوابق في الاحتيال والسرقة والاعتداء والغش. في ذاك المكان حيث سيمضي بضع سنوات قبل عودته الى المجتمع، قد يذهب كل الجهد الذي قامت به المديرية العامة لأمن الدولة والنيابة العامة وقضاء الحكم هدراً بسبب استمرار ــــ لا بل زيادة ــــ العمالة وتطوير أساليب وعلاقات العملاء بالعصابات والمجرمين المتخصصين.








ثغرات في القانون

حدّد المشرّع اللبناني صوراً متعدّدة لجرائم الخيانة، ضمن الجنايات الواقعة على أمن الدولة الخارجي، في المواد 273 ــــ 280 من قانون العقوبات. وقد قرّر عقوبات مشدّدة بشأنها نظراً لخطورتها.
أولى صور الخيانة وردت في الفقرة الأولى من المادة 273 عقوبات التي عاقبت بالإعدام «كل لبناني حمل السلاح على لبنان في صفوف العدو». وأكملت الفقرة الثالثة من المادة عينها أحكام الفقرة الأولى، فأنزلت عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة بحق «كل لبناني تجنّد بأي صفة كانت في جيش معاد ولم ينفصل عنه قبل أي عمل عدوان ضد لبنان وإن يكن قد اكتسب بتجنيده الجنسية الأجنبية». ويتّضح من النص أن التجنيد المشار إليه لا ينحصر بصفة معينة، فقد يتجنّد الشخص كطبيب أو مهندس أو اعلامي أو مسرحي أو بأي صفة أخرى، بحيث لا تنتفي مسؤوليته باختلاف صفته، ما دامت خبراته أو مؤهلاته أو خدماته موضوعة في تصرّف العدو. من هنا، تظهر أهمية هذه الفقرة في أنها توسّعت في مفهوم الخيانة لجهة تعدّد الصفة أو الصفات التي يمكن العميل أن ينخرط بموجبها في صفوف الجهة المعادية، بما يستتبع حكماً تعدّد الأعمال الجرمية التي يقوم بها، أي من دون أن تنحصر «بحمل السلاح». فيمكن أن تتّخذ مثلاً شكل تزويد العدو بمعلومات من خلال مراقبة بعض الشخصيات البارزة.
لكن يبدو ان القانون يعاني من بعض الثغرات. إذ أن العقاب يقع بحق العميل ما «لم ينفصل (عن الجيش المعادي أو جيش العدو) قبل أي عمل عدوان ضد لبنان». فلا يعاقب الشخص الذي ثبت تعامله مع العدو ما دام قد انفصل عنه قبل أن يشن عدواناً على لبنان. فيما جرم الخيانة يفترض ان يحدد بمجرّد ثبات تواصل العميل مع العدو، وأكد المشرّع ذلك المنحى في نص المادة 271 من قانون العقوبات معتبراً أنه «يتم الاعتداء على أمن الدولة سواء كان الفعل المؤلّف للجريمة تاماً أو ناقصاً أو في طور المحاولة».
أما الثغرة الثانية فتقع في نص المادة 280 التي يرد فيها «ينزل منزلة اللبنانيين بالمعنى المقصود في المواد 274 إلى 278 الأجانب الذين لهم في لبنان محل إقامة أو سكن فعلي». وبالتالي، تستثنى الجرائم الواردة في المادة 273 عقوبات، ولا ينطبق النص على الأجنبي الذي ليس له محل إقامة أو سكن فعلي في لبنان، وقام أو ساعد في ارتكاب أعمال عدوانية بحق هذا البلد.
والثغرة الثالثة تكمن في عدم تطرق قانون العقوبات بشكل مباشر الى حالة تسهيل دخول أحد رعايا إسرائيل أو جواسيسها إلى لبنان.
هذه الثغرات الثلاث تستدعي مزيداً من البحث ودراسة معمقة من قبل الحكومة واللجان النيابية لصياغة مشاريع قوانين حديثة لمكافحة العمالة للعدو الإسرائيلي في لبنان.