باتت معضلة أمراض الصّنوبر مسألة مطروحة على الصّعيد المحلّيّ، وقد تناولها بعض وسائل الإعلام والصّحف في مناسبات عديدة، وترافق معها ظهور مصطلحات باتت رائجة «كدودة الصّندل» واصفرار الشّجر والخسائر المتزايدة في إنتاج الحبوب.
لقد أدّت هذه المشكلة إلى تصاعد أصوات المواطنين في القرى، كما البلديّات وبعض الجمعيّات الأهليّة، كبعض النّشاطات التّوعويّة للأطفال الّتي قام بها اتّحاد الشّباب الدّيموقراطيّ اللّبنانيّ – كشّاف الاتّحاد في قرية صليما (المتن الأعلى) على سبيل المثال. لقد جاءت هذه الأصوات في محاولة للفت السّلطة المركزيّة حول هذا التّهديد، أمّا هذه الأخيرة، فكانت قد بدأت، بالتّعاون مع الجامعة الأميركيّة في بيروت ومنظّمة الأغذية والزّراعة للأمم المتّحدة «فاو»، بمحاولات لإيجاد حلول مباشرة وبحثيّة، لكنّها قد تبقى محدودة، وخصوصاً في ظلّ ضعف تمويل البحوث العلميّة ومحدوديّة التّكنولوجيا المتاحة في لبنان وعدم اكتراث السّلطة بالقطاع الزّراعيّ لمصلحة القطاع الرّيعيّ، وهنا تكمن العلّة الأساس.

للعلوم الكلمة الأساس

حتّى اليوم، يرجّح أنّ الآفات المباشرة ناتجة من الحشرات الّتي تفترس الصّنوبر بعدّة أشكال، يذكر منها حتّى اليوم ثلاث وهي:
1ــ دودة الصّندل، وهي الأكثر شهرةً؛ اسمها العلميّ «Thaumetopoeapityocampa» وهي يرقة تعيش في شجرة الصّنوبر وتغزل فيها خيوطاً بيضاء، فتساهم في تقويض نموّها كما في ترهّل غابات الصّنوبر والأرز، إلّا أنّ ضررها لا يقتصر على النّبات بل يتعدّاه إلى الماشية والحيوانات الأليفة والإنسان أيضاً، وذلك بحسب دراسات قام بها المعهد الوطنيّ للبحوث الزّراعيّة في فرنسا (INRA) عامي 2007 و2013، حيث تقوم بتحفيز ردّة فعل مناعيّة (الحساسيّة) إزاء التّعرّض لبروتين تنتجه كوسيلة للدّفاع عن نفسها. بحسب الدّراسات، لوحظ أنّ انتشار هذه الحشرة قد تصاعد بالتّلازم مع احترار المناطق من الجنوب إلى الشّمال، لتبلغ حوض المتوسّط وجنوب أوروبّا.
2ــ حشرة «دبّوس الصّنوبر الأميركيّ» واسمها العلميّ «Leptoglossusoccidentalis»، وهي حشرة تعيش على امتصاص عصارة أكواز الصّنوبر الفتيّة، ما ينتج أكوازاً فارغة من الحبوب، وقد تمّ تأكيد وجودها في لبنان عام 2013 بعد ملاحظة أوّل بوادر لها عام 2001 بحسب نبيل نمر رئيس قسم الهندسة الزّراعيّة في جامعة الرّوح القدس – الكسليك (1). اللّافت أنّه، بحسب دراسات المعهد الوطنيّ للبحوث الزّراعيّة في فرنسا عام 2007، فقد لوحظت أوّل بوادر هذه الحشرة في إيطاليا عام 1999، وقد تمّ ترجيح هذا الظّهور إلى انتقالها من أميركا الشّماليّة، منشئها الأصليّ، إلى أوروبّا عبر استيراد الخشب. وبحسب الدّراسة، لا تشكّل هذه الحشرة أيّ خطر على الإنسان.
3 ــ خنفساء الصّنوبر واسمها العلميّ «Tomicusdestruens»، تفتك ببراعم الصّنوبر الحديثة وتتغذّى منها ثمّ تقضي عليها بحفر أنفاق التّزاوج، وتبيض تحت لحاء الشّجرة، لتقوم اليرقات بعد الفقس بحفر أنفاق في الخشب ما يؤدّي إلى يباس الشّجرة وتعقيد عمليّة القضاء على الحشرة. يرجّح وجود خنفساء الصّنوبر في لبنان إلى استيراد أشجار الزّينة والخشب، بحسب بعض المهندسين الزّراعيّين.
يلاحظ في المصادر المذكورة آنفاً، أنّ للاحتباس الحراريّ دوراً ممكناً في هذه الأزمة، إن عبر تأمين بيئة مؤاتية لنمو وتكاثر الحشرات، أو في إضعاف مناعة الصّنوبر ضدّها (بسبب تضاؤل كميّة المتساقطات خصوصاً)، بحسب نمر، كما بحسب شادي مهنّا مدير مشاريع التّنمية الرّيفيّة والموارد الطّبيعيّة في وزارة الزّراعة (2). إلّا أنّ الاستيراد والتّجارة غير المراقبة (وربّما التّهريب) تلعب أيضاً دوراً لافتاً في هذا الإطار، كما مسألة الصّيد الجائر وغير المنظّم الّذي يقضي على أعداد هائلة من الطّيور؛ المقاوم البيئيّ لتكاثر الحشرات وأحد اللّاعبين الأساسيّين في توازن الدّورة الإيكولوجيّة. تجدر الإشارة إلى أنّ بعض المواطنين يتحدّثون عن أمراض حديثة تسبّب اصفرار الصّنوبر وجفافه وموته، في حين لم تؤكّد الدّراسات حتّى اليوم ماهيّة هذه الأمراض وإمكانيّة ارتباطها بالحشرات أو أنّها آفات مختلفة.

في الحلول: بين المطروح والممكن

بعد الشّرح المختصر لأسباب المشكلة، يتبادر إلى ذهننا بعض الحلول البسيطة، كالحدّ من الصّيد الجائر مثلاً، أو تشديد المراقبة على استيراد الخشب منعاً لتكاثر الحشرات أو دخول أنواع جديدة منها. أمّا الدّولة اللّبنانيّة، فقد قامت بطرح بعض الحلول على صعيد البلديّات كقطع الشّجر اليابس وحرقه لمنع الحشرات من التّغذية والتّكاثر. كما أنّها، على صعيد وزارة الزّراعة وبالتّعاون مع الفاو، بدأت تعتمد على المبيدات الكيميائيّة عبر طرح خيار الرّشّ بالطّائرات أو مباشرةً على الأشجار المصابة، ولكن لا نعلم حتّى الآن إذا ما ستتمّ دراسة الأثر البيئيّ والصحي لهذه المبيدات الكيميائيّة، وخصوصاً مع واقع البحوث الصّعب في لبنان.

لا نعلم حتّى الآن إذا ما ستتمّ دراسة الأثر البيئيّ والصحّي لهذه المبيدات الكيميائيّة


وارتكازاً إلى البحوث، يمكننا أن نجد إمكانيّات أكثر تطوّراً في جعبة البيولوجيا النّباتيّة والهندسة الزّراعيّة، حيث يمكن ضمن إطار الابتكارات المعمّقة تطوير أسمدة أو أدوية تسمّى «محفّزات بيولوجيّة» (Biostimulants) تهدف إلى تحفيز مناعة الصّنوبر ضدّ الحشرات أو مقاومتها لظروف الجفاف والحرارة. كما يمكن تطوير ما يسمّى «عامل تحكّم بيولوجيّ» (Agent de Biocontrôle) والّذي يتحكّم بدورات حياة الحشرات ليقضي عليها أو يحدّ من تكاثرها، ولكن، هذا النّوع من العلاج يتطلّب بحوثاً معقّدة على مستوى تحليل الأثر البيئيّ والصّحيّ، وخصوصاً أنّ هذه العوامل الّتي تستخرج بأغلبها من الطّبيعة (نباتات، ميكروبات، فطريّات، إلخ) تتميّز بتعقيد مكوّناتها، ما لا يمكن دراسته إلّا بتكنولوجيا تحليليّة عالية التّطوّر والدّقّة. وهنا يشار إلى أنّ أحد هذه العوامل قد بدأ يستعمل في علاج الصّنوبر بحسب مهنّا (2)، وهو عامل مستخرج من بكتيرياBacillus thuringiensis والذي يستعمل أخيراً في القضاء على البعوض، وتقاد واحدة من الدّراسات على أثره البيئيّ في مركز البحوث الجُزُريّ ومرصد البيئة – جامعة بيربينيان، فرنسا (CRIOBE – UPVD).

خاسرون ورابحون

من البديهيّ أن تكون النّتائج كارثيّة على مستويات عدّة، أكان بيئيّاً وطبيعيّاً بسبب القضاء على المساحات الخضراء وزيادة نسبة التّصحّر (وما لذلك من تفاقم لتلوّث الهواء، تزايد الاحترار، انجراف التّربة، وشحّ المياه الجوفيّة)، أو الكوارث الاقتصاديّة والاجتماعيّة والديموغرافيّة (خسائر المواسم، فقر، نزوح، توتّر اجتماعيّ)، حيث يذكر حبيب فارس رئيس بلديّة بكاسين أنّ العائدات السّنويّة عادة ماً تبلغ 400 - 500 مليون ل. ل.، أمّا هذه السّنة، فقد وصلت إلى 60 مليون ليرة فقط (2). إضافة إلى هذا، فإنّ السّياحة البيئيّة ستكون أيضاً ضحيّة لهذه الأزمة، ما سيعرّض أصحاب المصالح في القرى والبلدات لخسائر مهمّة، كما قطاع السّياحة الذي يعتمد عليه الاقتصاد اللبنانيّ بشكل كبير.
وفي خضمّ هذه الكارثة، يبرز مستفيدون أساسيون، ألا وهم أصحاب المرامل الذين سيجدون في الأحراج اليابسة غنيمة مهمّة لزيادة الأرباح، والمضاربون العقاريّون الذين سيهرعون لشراء الأراضي من أبناء القرى بأبخس الأسعار لتحويلها إلى مشاريع سكنيّة تضاعَف فيها الأرباح بشكل مرعب (وتحتاج إلى القليل من الفساد المستتر، وما أكثره).

المصادر:

(1): Lebanon’s pine trees under threat, Victoria Yan, The Daily Star (Lebanon), 28/04/2017
(2): Pins du Liban : ravages et solutions, Suzanne Baaklini, L’Orient Le Jour, 01/05/2017




البحث العلميّ لحلّ المعضلات

كما هي العادة، نعود دائماً إلى البحث العلميّ كحلّ للمعضلات، في أساسها كما في نتائجها وأثرها الجانبيّ، ونعود أيضاً لنصطدم بواقع البحوث المرير في وطننا، والذي لا يأتي إلّا ضمن إطار سياسات السلطة اللبنانيّة في إهمال القطاعات المنتجة (كالزّراعة، كما البحوث نفسها)، لمصلحة الرّيع (المضاربات الماليّة والعقاريّة، الفساد المقونن، التجارة المربحة، السّياحة)، من دون أيّ اعتبار لمصلحة المجتمع، الصحّة، والبيئة، كما من دون الالتفات إلى تناقضات هذه السياسة التي لا تسعى إلّا لتركيز الثّروة في يد أقليّة على حساب الأكثريّة وأيّ شيء آخر (حتّى القطاعات الرّيعيّة، نقصد هنا السّياحة).
إنّ هذه السياسة لا تقتصر على لبنان، بل تتعدّاه إلى المقياس العالميّ، وإحدى نتائجها أزمة الاحتباس الحراريّ (أحد أسباب أزمة الصّنوبر بالمناسبة)، فنجد أنّ الحلول لا يمكن أن تقتصر على تغيير النظام اللبناني، بل لا بدّ من أن تطال نطاقاً أوسع، يمتدّ على مدى مصلحة الفئات المتضرّرة في هذه المعمورة، وتساهم ضمنه كلّ فئة لبلوغ عالم تسوده الحياة السليمة والبيئة والأمان الاجتماعيّ، والعلم أيضاً!