لا شكّ في أن التضامن اللبناني الذي بدأ منذ اللحظة الأولى لإعلان الرئيس سعد الحريري استقالته، مُجبراً وتحت التهديد في السعوديّة، أسقط مفاعيل الانقلاب السعودي على الاستقرار والسلم الأهلي في لبنان.
فالتنسيق العالي المستوى والمتواصل بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي مع عائلة الحريري والعاقلين في تيّار المستقبل، جنّب لبنان أحداثاً خطرة، كان الجنون السعودي ــ الإسرائيلي يراهن عليها، لقلب المعادلة في البلد الصغير.
غير أن الجزء الظاهر من الحكاية، لا يُلغي الدور الكبير الذي قام رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط في الخفاء، لإحباط الانقلاب السعودي، منذ ما قبل إجبار الحريري على الاستقالة.
في الأيام الأخيرة من شهر آب، زار وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان لبنان، وعلى أجندة عمله إعادة إحياء فريق «14 آذار»، انطلاقاً من دعوة مجموعة سياسيين لبنانيين لزيارة الرّياض، على رأسهم الحريري وجنبلاط ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وإطلاق مواقف من هناك تصبّ في اتجاه خطاب «14 آذار» القديم/ الجديد. غير أنّ الحريري وجنبلاط، بعد التشاور، قرّرا التهرّب من الزيارة، لإدراكهما انعكاسها على المعادلة الداخلية التي نشأت مع تسوية رئاسة الجمهورية. وقرّر الثنائي اللجوء إلى حجّة «الشكل» لتجنّب الزيارة، وأنهما يفضّلان أن لا تحصل في سياق زيارة جعجع وسياسيين آخرين، بينهم النائب سامي الجميّل، حتى لا تُفهم الزيارة تحديّاً لعون وضرباً للتسوية. وبحسب مصادر سياسيّة تابعت تفاصيل تلك المرحلة، تكفّل الحريري بإجراء سلسلة اتصالات لشرح الموقف للسعوديين ولولي العهد محمد بن سلمان، الذي أكّد لرئيس الحكومة أنه لم يكن على علم بتفاصيل الدعوات وأجواء الزيارات، وطلب منه الحريري تأجيل زيارته وزيارة جنبلاط إلى وقت لاحق، ثمّ أبلغ جنبلاط بأنه سيعمل على تأمين موعد لاحق له مع ابن سلمان. وطلب الحريري أيضاً من الرئيس فؤاد السنيورة، عدم تلبية الدعوة، وانتظار تحديد موعد آخر. وبعد زيارة جعجع والجميّل، حاول الوزير وائل أبو فاعور عبر علاقته بالسبهان الحصول على موعد جديد من ابن سلمان، إلّا أنه فشل.
لم يتوقّف ضغط السبهان على الحريري وجنبلاط. ما هي إلّا أيام بعد التهرّب من قصّة الزيارات، حتى طلع القائم بالأعمال السعودي في بيروت وليد البخاري، الذي رُقِّي قبيل زيارة السبهان إلى رتبة وزير مفوض في وزارة الخارجية السعودية، بفكرة إقامة عشاء في السفارة السعودية يدعى إليه قادة 14 آذار ورموزها. مرّة جديدة، نجح الحريري وجنبلاط في التهرّب من هذا «الفخ» الذي كان السبهان ورجاله في بيروت يعدّونه لهما. واقترح جنبلاط على الحريري أن يقف خلف موقفه الرافض. ولم يكتفِ جنبلاط بإبلاغ السعوديين رفضه وبتشكيل غطاء لموقف الحريري بالتهرّب من هذا اللقاء الذي يحمل اتجاهاً تصعيديّاً واضحاً ضد عهد عون وحزب الله، بل رتّب مع برّي والحريري لقاءً في منزله في كليمنصو، واتفق الثلاثي على الاستمرار بهذه الخطّة، حماية لموقف الحريري.
وبعد، تنبّه جنبلاط سريعاً قبيل استقالة الحريري إلى أن شيئاً ما يُعد في الخفاء لتسليم زعامة آل الحريري لبهاء، شقيق رئيس الحكومة، فلم يكن منه إلّا أن انسحب من اللقاء مع موفد بهاء الحريري صافي كالو، بالذريعة ذاتها التي استخدمها قبلاً حيال وضعه الصحّي والآلام التي يعانيها بسبب العملية التي أجراها في كتفه وحاجته إلى الراحة.
هذا لا يعني أن جنبلاط كان يريد الصدام مع السعودية. فهو في زيارة الحريري ما قبل الأخيرة للرياض، كان ينتظر منه جواباً على موعد وعده الحريري به مع ابن سلمان، على أن يقوم جنبلاط بوضع ولي العهد برؤيته للوضع اللبناني. وبقي السبهان ورجاله في بيروت يراهنون على تغيّر موقف جنبلاط حتى تقديم الحريري استقالته، ظنّاً منهم أن الزعيم الاشتراكي سيلاقي جعجع في موقفه. إلّا أنه فاجأهم بما كتبه على «تويتر» بعد وقت قصير من إعلان الحريري استقالته، وقوله: «مهما كانت الصعوبات، فإن التضحية من أجل الحدّ الأدنى من الوفاق والحوار يجب أن تكون الأساس من أجل لبنان. أما حياة المرء فمرهونة بالأقدار». وبحسب المصادر المتابعة، فإن السعوديين يلقون اللّوم في إفشال انقلابهم على ثلاث شخصيّات من الفريق «المحسوب عليهم» في لبنان بالتدريج: مستشار الحريري نادر الحريري، وليد جنبلاط ووزير الداخلية نهاد المشنوق.
وعلى الرغم من أن جنبلاط كان دائماً صاحب رهانات خاسرة، على الأقل منذ عام 2000، يكرّر رئيس المجلس النيابي عبارةً شهيرةً، «وليد ما بيغلّط».