نتيجة استعراض مختلف مكونات حصة لبنان من استثمار ثروته من الغاز (أي إتاوة 4% تضاف إليها 30% من الأرباح وضريبة 20% على أرباح الشركة العاملة)، يتبيّن أن هذه الحصة لن تتجاوز في أفضل الحالات 47% مقابل نسب تتراوح بين 65 و85٪‏ في أكثر من 70 دولة تطبّق نظام تقاسم الإنتاج في العالم.
لا بل إن نسبة الـ 47% المذكورة تبقى أدنى بكثير مما كان يؤمّنه في القرن الماضي نظام الامتيازات في الدول العربية وغيرها من البلدان النامية، والذي كان يتكون من إتاوة 12.5% من قيمة الإنتاج، تضاف إليها ضريبة 50٪ على الأرباح. هذه الفروقات الكبيرة بالنسبة لما تحصل عليه الدول المنتجة ستترجم بخسائر قد ترتفع إلى المليارات من الدولارات في لبنان.
إضافة لما سبق، وفضلاً عن ضريبة دخل 20% مقابل 26% كمعدّل عالمي، يتضمن القانون الضريبي الجديد الخاص بالأنشطة البترولية تدابير خاصة استثنائية تناقض الحاجة للشفافية، كما تناقض المصلحة العامة. وفي طليعة هذه التدابير إعفاء الشركات المؤهلة للحصول على حقوق استكشاف وإنتاج من أحكام المادتين 78 و144 من قانون التجارة الخاصة بهوية وجنسية المساهمين، والسماح لها بتأسيس شركات أخرى مساهمة و"مرتبطة بها"، تعفى هي أيضاً وبطبيعة الحال من الالتزامات المنصوص عليها في المادتين المذكورتين من قانون التجارة. هذه التسهيلات وهذه الإعفاءات تنطبق تلقائياً على الشركات المشبوهة والشركات الوهمية المؤهلة من نوع تلك التي تم تسجيلها قبيل التأهيل برساميل رمزية في بيروت أو هونغ كونغ، كما أنها تساعد على طمس جنسية وهوية أصحابها والمستفيدين منها.
ومهما كانت أهمية الأحكام الضريبية وما يترتب عليها من خسائر، فالواقع أنها تشكل امتداداً للانحرافات الجوهرية التي كرّسها المرسوم 44/2017، وعلى رأسها التنكّر للمبادئ الأساسية التي تبناها القانون، من نوع نظام تقاسم الإنتاج، وطرد الدولة من الأنشطة البترولية، وذلك بشطحة قلم من بعض موظفي وزارة الطاقة، الذين قرروا في المادة 5 من المرسوم أنه "لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى"، مما فتح الباب واسعاً أمام مصالح خاصة تحلّ محلّ الدولة وتسطو على ما يبدو كأكبر ثروة طبيعيّة يعوّل عليها اللبنانيون للتغلب على المصاعب المعيشية التي خلّفها لهم النهب والفساد ووباء "المحاصصة".
هذا الوضع يجعل من لبنان البلد الوحيد في العالم الذي يقبل بتخلي الدولة، بشكل رسمي، عن دورها المحوري وعن مسؤولياتها في استثمار ثروتها النفطية الموعودة، والدولة الوحيدة التي تقبل بقفزة ما يقارب نصف قرن إلى الوراء لتعود إلى نظام الامتيازات القديمة، التي نبذتها كل الدول النامية وتم تأميم آخرها في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، والدولة الوحيدة التي ترضى لنفسها بأدنى دخل بترولي وبشروط استثمار من الأسوأ في العالم، إن لم تكن أسوأها على الإطلاق.
في ضوء ما سبق، يبدو أن تصحيح الانحرافات التي حصلت حتى الآن، ورسم سياسة نفطية على مستوى ما يحق للبنانيين، يقتضيان حواراً وطنياً شفافاً حول النقاط الأساسية التالية:
(1) استرجاع الدولة لصلاحياتها ودورها الجوهري في الأنشطة البترولية في إطار نظام تقاسم الإنتاج الذي نصّ عليه القانون البترولي 132/2010، مما يقتضي إلغاء المادة 5 من المرسوم 43/2017 التي تخالف روح ونص هذا القانون.
(2) إنشاء شركة نفط وطنية تمثل لبنان واللبنانيين في صناعة البترول والغاز، بما في ذلك في اتفاقيات تقاسم الإنتاج مع شركات بترولية كبرى تتولى دور "المشغل"، وصرف النظر كلياً عن معظم أو كل الشركات الموصوفة بـ "غير المشغلة"، أي غير القادرة أصلاً على القيام باستكشاف وإنتاج البترول والغاز في المناطق البحرية، وفي طليعتها طبعاً الشركات الوهمية من نوع Apex Gas وPetroleb والشركات الصغيرة المعروفة والملاحقة قضائياً بتهم النهب والفساد في عدد من الدول العربية. خاصة وأنّها تستعمل كغطاء لمصالح فردية محليّة. ومن الأفضل أن تكون شركة النفط الوطنية شركة مختلطة بين القطاعين العام والخاص، وبرأسمال مفتوح، ضمن شروط معينة، لكلّ اللبنانيين.
(3) استعادة المجلس النيابي للصلاحيات التي سُلِبت منه، ولدوره الحيوي في مجالي التشريع البترولي ومراقبة الاتفاقيات المبرمة مع الشركات العاملة.
(4) إعادة النظر في المهام الموكلة لهيئة البترول كي تكون جهازاً تنظيمياً مستقلاً عن وزير الطاقة.
(5) إعادة صياغة بعض أحكام دفتر الشروط ونموذج "اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج" بشكل يفصل بين تراخيص الاستكشاف، من جهة، واتفاقيات الإنتاج من جهة أخرى. ويجعلها تتماشى مع الشروط المالية والاقتصادية المتعارف عليها في مئات اتفاقيات تقاسم الإنتاج المطبّقة حالياً في أكثر من 70 بلداً.
وحده الالتزام بهذه الشروط الجوهرية يجعل من الممكن الإجابة عن التساؤل عما إذا كانت سياسة البترول والغاز تستهدف مصالح لبنان واللبنانيين، أم أنها ستكون أوسع عملية نهب في تاريخ الجمهورية اللبنانية.

* موجز محاضرة ألقيت في 12 تشرين الأول 2017 في نقابة المهندسين، بيروت