بعد إقرار قانون الأحكام الضريبية المتعلقة بالأنشطة البترولية في 19 أيلول الماضي، والذي يشكل آخر مرحلة مما يسمى «المنظومة التشريعية» لاستثمار الثروة النفطية الموعودة مقابل الشواطئ اللبنانية، أصبح مبدئياً من الممكن التفاوض مع شركات بترولية لإبرام اتفاقيات استكشاف وإنتاج تلزم لبنان لمدة تقارب الأربعين عاماً.
هذا كلّه على الرغم من كل الهواجس المثارة، والعديد من التساؤلات التي طرحت في الندوات ووسائل الإعلام وغيرها، والتي لم تتم الإجابة عليها بعد، حول الثغرات والانحرافات في مسيرة البترول والغاز في لبنان. هذه الثغرات والانحرافات، وما تنطوي عليه من مخاطر، يمكن إيجازها في النقاط التالية:
أولاً- التشويه الصارخ لنص وروح بعض الأحكام الأساسية من القانون البترولي 132/2010، عن طريق المرسوم التطبيقي 43/2017 الخاص بنموذج «اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج» (Exploration and Production Agreement - OPA) المقترح عقدها مع الشركات العاملة، وقد حصل التشويه عندما تجاهل المسؤولون عن صياغة هذا المرسوم نظام «تقاسم الإنتاج» المعروف في كل أنحاء العالم والذي نص عليه القانون في المادة 44 وغيرها، ليستعيضوا عنه بما يسميه بعضهم «تقاسم الأرباح» والذي يشكل عملياً عودة مقنعة لما هو أسوأ مالياً واقتصادياً وسيادياً من نظام الامتيازات القديمة التي قضت عليها كلياً آخر موجة من التأميمات في الدول العربية وغيرها في مطلع السبعينيات من القرن الماضي.
ثانياً- النتيجة المباشرة لتشويه القانون البترولي ولتجاهل ما نصّ عليه حول نظام «تقاسم الإنتاج»، كان إقصاء الدولة كليّاً عن المشاركة المباشرة وصنع القرار في الأنشطة البترولية، كما تنصّ على ذلك المادة 5 من المرسوم المذكور عبر التّأكيد على أنه «ليس للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى»!...
هكذا، وفي ثماني كلمات لا غير، قرّر بعض موظفي وزارة الطاقة ومن وراءهم، وبكلّ بساطة، طرد الدولة وكلّ من تمثله، من مراكز المسؤولية في استثمار الثروة الموعودة. ولم يتركوا لها سوى الدور المتمثّل في «حقّ طلب تعيين ممثلين للحضور كمراقبين» في بعض اجتماعات لجان إدارة الشركات العاملة»، حسب المادة 16 من المرسوم 43.
وليس مستغرباً أن يؤدّي هذا التناقض حول نظام الاستثمار المزمع تطبيقه، بين القانون 132/2010 من جهة والمرسوم 43/2017 من جهة ثانية، إلى التناقض بين التصريحات العلنية التي يطلقها عدد من المسؤولين، وحسب الظروف، عن هذا القطاع. ففي حين يعلن وزير الطاقة الحالي أن النظام المعتمد هو نظام تقاسم الإنتاج، كان قد سبق لبعض أعضاء هيئة البترول أن أعلنوا أن المرسوم قد تبنّى نظام «تقاسم الأرباح». أما الرئيس السابق للهيئة نفسها، فقد فسّر مطولاً في لقاء صحافي نُشِر في 17 نيسان 2015 أنّ النظام المعتمد هو نظام «وسطي» يقع بين نظام الامتيازات ونظام تقاسم الإنتاج و»يجمع محاسن النظامين»!
نتيجة لذلك يواجه لبنان اليوم وضعاً سريالياً غير مسبوق جرّاء عزم المسؤولين على إبرام اتفاقيات ملزمة لأربعة عقود، وذلك دون أن يتمّ التفاهم بينهم حول طبيعة وحول مضاعفات وحول ما يعنيه نظام الاستثمار الذي ستقوم عليه هذه الاتفاقيات!
ثالثاً- هذا الفراغ الذي أحدثه تعطيل دور الدولة المحوريّ والامتناع عن إنشاء شركة نفط وطنية، فتح الباب على مصراعيه لإدخال شركات وهمية لا وجود لها إلّا على الورق، تمّ تسجيلها على جناح السرعة برساميل رمزية، من نوع Petroleb التي سُجّلت في بيروت، أو ApexGas التي تمّ تسجيلها في هونغ كونغ برأسمال عشرة آلاف دولار هونكونغي، أي 1.290 دولاراً أميركياً، ولم تجد وزارة الطاقة وهيئة البترول أيّ مانع للموافقة على «تأهيلها مسبقاً» للحصول على حقوق استكشاف وإنتاج البترول والغاز في المناطق البحرية! كما أنّها لم تجد مانعاً من تأهيل شركات صغيرة أخرى ملاحَقة قضائياً في بعض الدول العربية، يُعرف عنها بالإنكليزية بـ»الهوليكان»، أي الشركات المارقة المتّهمة بالرشى والفساد، إضافة إلى بعض الشركات المشبوهة التي تتداخل رساميلها بعضها مع بعض، ما يتعارض مع الحاجة الماسة لشفافية العروض والاتفاقيات المزمع عقدها.

حصة الدولة من بيع
معطيات المسح البحري
بلغت 35 مليون دولار


أما الهدف، فهو فرض هذه الشركات الوهمية أو المارقة ومن تمثّله كشركات «غير مشغلة»
(Non-operators) ترتبط مع الشركات الكبرى التي تقوم بدور المشغّل (Operator)، وذلك في إطار «شراكة تجارية غير مندمجة». وحسب دفتر الشروط والمرسوم 43. فإنّ هذه الشراكة غير المندمجة يجب أن تضمّ شركة مشغلة تملك 35% على الأقل من الرأسمال، وشركتين غير مشغلتين على الأقل، تملك كل واحدة منها 10٪ من الرأسمال كحدّ أدنى. وهكذا تكتمل الحلقة ويتم نقل ملكية البترول والغاز المُكتشَف، قد تبلغ قيمته مليارات أو عشرات مليارات الدولارات، من الدولة (أيّ كل مواطن لبناني) إلى وسطاء وأفراد يتستّرون وراء شركات صورية أو مارقة. عملية اللفّ والدوران هذه تشكّل بكلّ المعايير قفزة نوعية على سلم النهب والفساد لم يسبقنا إليها أيّ بلد من أكثر بلدان العالم فساداً!
رابعاً- انعدام الشفافية: بغية تحقيق الغاية المنشودة بعيداً عن نظر وسمع اللبنانيين، كان لا بدّ من التعتيم الكامل على التدابير المتخذة، وهذا ما حصل عبر التجاهل التام لصلاحيات المجلس النيابي والهيئات الرقابية المختصة، والحؤول دون قيام وسائل الإعلام بدورها الحيوي في هذا المجال، وتجنّب أي حوار وطني حول قضية بهذا الحجم. وهكذا فُرضَت السرية التّامة، طوال ما يقارب الأربع سنوات، على نصوص دفتر الشروط ومشروع المرسوم 43، اللذين يتضمنان معظم تفاصيل التشريع البترولي، إلى أن تم إقرارهما على عجل خلال أول جلسة عقدتها الوزارة الجديدة في 4 كانون الثاني 2017. ولم يترك للوزراء الجدد أكثر من 48 ساعة لقراءة وتمحيص وإبداء الرأي في نصوص تمتدّ على 374 صفحة، فيها ما فيها من أحكام تغطّي الأوجه القانونية والإدارية والفنية والمالية والاقتصادية والبيئية وغيرها، لصناعة البترول والغاز! ولم يكن أعضاء المجلس النيابي أوفر حظّاً من الوزراء الجدد، إذ أن هذا القسم الأساسي من التشريع البترولي لم يتم عرضه عليهم، ولم يطلب منهم أحد رأيهم حول موضوع من صُلب صلاحياتهم.
وطالما أن أهل مكة أدرى بشعابها، فلا شك أن أفضل تعبير عن هذا الوضع الفريد من نوعه هو ما جاء على لسان النائب محمد القباني، رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه النيابية، عندما قال في آب 2016: «إن أسوأ ما في مسيرة النفط والغاز عندنا هو الغموض الذي يحيط بالمعلومات ومحاولة إحاطتها بالسرية، وذلك حتى على المجلس النيابي. وهذا أمر معيب يجب أن نخجل منه وننقلب عليه، كما أنه يلقي ظلالاً من الشك على هذا الملف... سنقوم بكل ما علينا لضمان حق الوصول إلى المعلومات، أي إلى الشفافية في قطاع الموارد البترولية»، قبل أن يضيف: «إننا وحتى الآن لم نحصل على معلومات حول المرسومين الموجودين لدى مجلس الوزراء. وهذا أمر مستغرَب ومرفوض من مجلس النواب، وهو سلطة الرقابة العليا في البلاد». فكيف يا ترى يمكن التوفيق بين ما قاله رئيس لجنة الطاقة في المجلس النيابي، وما يؤكده دون أي تردد وزير الطاقة حول كون السياسة النفطية في لبنان تتمتع بـ «أعلى درجات الشفافية في العالم» (كذا بالحرف الواحد)...
خامساً- بوادر الهدر والفساد بدأت قبل اكتشاف البترول والغاز: أخيراً لا آخراً أدى انعدام الشفافية والمحاسبة إلى ظهور أول بوادر الهدر والسمسرات حتى قبل التأكد من وجود الثروة الموعودة. ومن الامثلة العديدة على ذلك عقود الاستشارات التي كلفت الخزينة عشرات الملايين من الدولارات، والتي تمت كلها تحت غطاء السرية ودون استدراج عروض. شأنها في ذلك شأن كل عقود المسح البحري والبري التي شارك فيها بعض السماسرة ممن ليس لهم أي خبرة في الموضوع. ومن المعروف أن حصة الدولة من بيع معطيات المسح البحري بلغت حوالى 35 مليون دولار، أي ثلث أرباح الشركات التي قامت بها، لم يعلن حتى الآن كيف تم التصرف بها.
*موجز محاضرة ألقيت في 12 تشرين الأول 2017 في نقابة المهندسين، بيروت