يوم قرّر الناس في منطقة بشرّي إعلان نفير «الثورة» على الأحادية السياسية والإقطاع، المُتمثل آنذاك بالزعامات المحلية وحزب الكتائب، وجدوا أمامهم القوات اللبنانية وقائدها سمير جعجع. قدّم لهم «ابن البلد» نموذجاً، وخياراً بديلاً، فوالوه طوال سنوات غير آبهين لما إذا كان في ذلك صواب أو خطأ. نجح جعجع في توحيدهم حوله، حتى ارتفع بالنسبة إلى كثيرين منهم إلى مرتبة القديسين.
عصبهم حوله كان يشتد أكثر كلّما كان مُحدّثهم من خارج بشرّي، فيظهرون أمام «الغريب» الوجه الحسن لعلاقتهم برئيس القوات اللبنانية. ولكن، كُلّما اختلى البشراويون بأنفسهم، لم يخفوا امتعاضهم ونقمتهم تجاه الكثير من تصرّفات «الحزب الحاكم»، المُتهم بأنه يستعمل أساليب خصومه في الحكم. يُحمّل المعترضون الجزء الأكبر من المسؤولية للنائبة ستريدا طوق، مُحاولين تحييد زوجها عن انتقاداتهم. وفي ذلك نوعٌ من «التجنّي» عليها، لأنها بالتأكيد لا تُشكل جناحاً مُنفصلاً داخل القوات، ولا تُقدِم على أي تصرّف من دون التشاور مع رئيس الحزب بخصوصه. ولو لم يكن راضياً عن طريقة عملها، لما تمكنت من بسط نفوذها إلى هذا الحدّ في منطقة بشرّي.
لم تكن النقمة على القوات تجد موطئ قدمٍ لها، بسبب غياب أي مشروع بديل، ينال ثقة أهالي بشرّي. والدليل أنّه منذ ما بعد 2005، لم تتمكن الشخصيات المحلية من إثبات نفسها في أي استحقاق. وحين تشكلت خلال الدورات «البلدية» السابقة لوائح ضدّ القوات، لم يكن لها مدى حياة أبعد من تاريخ الحدث. إلى أن أتت الانتخابات البلدية الأخيرة، فشكّلت مجموعة من أبناء بشري، مُعظمهم مرّ سابقاً في القوات، لائحة نافست بها لائحة معراب. توحّد حول مجموعة «بشرّي موطن قلبي» كلّ القوى السياسية المُعارضة للقوات، ولكن من دون أن يكون لهم دورٌ مباشرٌ في العملية الاقتراعية. صورة المُرشحين إلى الانتخابات، وابتعاد الزعامات التقليدية عن الواجهة، أراح الرأي العام البشراوي، الذي تجرأ على التعبير عن رأيه، فحصدت اللائحة المعارضة نسبة 38.9%. قدّمت نتائج الانتخابات، دفعاً لقوى التغيير في بشرّي بأنّ الأمل باختراق «قلعة» القوات اللبنانية موجود، ما دامت الانتخابات أثبتت توق جزء لا بأس به من الناس إلى التغيير. ساهم في إعلاء معنوياتهم إقرار قانون قائم على النسبية في ظلّ الصوت التفضيلي، ليرفع حظوظ خرق المقعدين القواتيين بواحد. هذا هو الهدف الذي يُدرك المعارضون أنّ من الاستحالة تحقيقه إلا في حال توحُّد «المعارضات» تحت مظلّة واحدة، فلا تضيع أصوات الناخبين. ولكن العكس هو ما يحصل في بشرّي. جبران طوق، روي عيسى الخوري، سعيد طوق، مجموعة «بشرّي موطن قلبي»، يعتقد كلّ منهم أنّه «الأحق» بتمثيل المعارضة. وفي ظل تشرذمهم، وصل التشاؤم ببعضهم إلى حد قول «مبروك ستريدا»، رغم أن الحملات الانتخابية لم تنطلق جدياً بعد.

يُحسب عيسى الخوري وسعيد طوق على جبران طوق، ويرفضان التنازل لابنه ويليام


قبل 4 أشهر، سعى رئيس لائحة «بشرّي موطن قلبي» جو خليفة رحمة إلى توحيد المعارضة، «لأننا كمجموعة نُقارب الموضوع من منطلق عام وليس خاصاً». يقول لـ«الأخبار» إنّ «الاجتماعات أسبوعية بيننا من جهة، وبين جبران طوق وعيسى الخوري وسعيد طوق، كلّ على حدة، من جهة أخرى». لم ينتج، حتى الآن، أي إيجابية من هذه اللقاءات، بل إنّه بحسب المعلومات أُعلن فشلها. ولكنّ رحمة يرى أنّه «لا يزال هناك بصيص أمل»، مع عدم إنكاره «وجود صعوبة. وصلنا إلى حدّ أن نطلب من الثلاثي (جبران طوق وعيسى الخوري وسعيد طوق) أن يُسموا هم المُرشح، شرط ألا يكون أحدهم، ولم يقتنعوا». يجب أن يكون المُرشح وجهاً جديداً لأنّ «الناس الذين أخذوا القرار أن يكونوا ضدّ القوات، لن ينتخبوا واحداً من الزعامات التقليدية». وحتّى مجموعة «بشرّي موطن قلبي»، تتجه إلى «أن نكون مستقلين. ولا مُشكلة حول هوية مُرشحنا، فكلّ شخص لديه الحدّ الأدنى من الصدق نسير به»، نافياً أي خلافات بين أعضاء المجموعة حول أي سبب.
برز سابقاً اسم الإعلامي رياض طوق مُرشحاً عن الشباب المعترضين، قبل أن تخفّ حركته. يُبرّر طوق ذلك بأنّ «التشرذم الحاصل في بشرّي، ووجود 3 مرشحين مصممين على عدم التراجع عن خوض الانتخابات، دفعنا إلى التهدئة». يوضح أنّ الهدف «لا ينحصر بمواجهة القوات، فنحن تخطينا قصة أن نشتغل سياسة نكاية بها، بل نواجه كلّ الطبقة السياسية في هذا البلد. نحن جزء من جوّ وطني عابر للمناطق والطوائف، ومن الناس المُصابين بالقرف والإحباط. نريد أن نُحارب الطبقة الفاسدة المسؤولة عن إفقار الناس وتهجيرهم». نجاح الأمر في بشري يستلزم، كخطوة أولى، «أن تتوحّد المعارضة. فلنُسلّم جدلاً أنّنا كمجموعة شباب مستقلين لم نترشح، ولكن وجود ٣ من الفريق نفسه، ألا يُعد بحدّ ذاته تشرذماً؟ وهل هم قادرون على أن يكسبوا مقعداً حينئذ؟». يردّ جبران طوق بأنّه في هذه الحالة «هناك صعوبة وليس استحالة». قبل فترة، قرّر الرجل أن يُرشح نجله ويليام، «في البداية البعض اعترض، قبل أن يقتنعوا معي. هناك ناس يقولون إنّه توريث سياسي، ولكن للمجتمع خصوصية يجب أن نحترمها»، مع وجود اتجاه إلى «التحالف مع (النائب) سليمان فرنجية، صاحب الموقف الصادق». يتحدّث عن ضرورة أن يكون «للمعارضة هدف موحد، بمعزل عن الأشخاص، وهو كسر الأحادية وإعادة الديمقراطية الحقيقية إلى بشرّي.

تجتمع «بشرّي موطن قلبي» مع الفعاليات المحلية لمحاولة توحيد المعارضة
إذا لم تتوحد المعارضة، لا يكون أفرادها صادقين في السعي إلى تحقيق هدفهم». هل تقبل إذاً سحب ترشيح ويليام إذا اتفقت المعارضة على اسم آخر؟ «أقبل إن لم يكن لدى ويليام الإمكانات. ولكن استناداً إلى الأرقام، هو لديه الأكثرية. كذلك فإنّ معادلة القوات ــ جبران طوق، في بشرّي، لم تأتِ من فراغ».
مسمار ثالث يُدَقّ في نعش التوافق بين المعارضة في بشرّي، حين يقول سعيد طوق إنّه «إذا كان الشيخ جبران مُرشحاً، فهو كبير العائلة ولا يُمكنني أن أقف ضدّه. ولكن بما أنّ المطروح هو ويليام، فبرأيي ينقصه القليل من الخبرة». انطلاقاً من هنا، يؤكد سعيد طوق ترشحه للانتخابات، «أمر وحيد قد يؤثر على قراري، إذا شعرت بأنّ البشراويين لا يقبلونني». ولكن، على العكس من التشدّد الذي يُبديه جبران طوق، يبدو سعيد واقعياً حين يعود في حديثه إلى فترة «البلدية»، ليشير إلى أنّ «ظروفاً عدّة أدّت إلى الحصول على هذه النتيجة، أهمها العمل التحضيري والقائم أساساً على تحييد الفعاليات المحلية. الصورة شجعت الناس على الاقتراع. هذا هو نبض الشارع الذي تخلّت عنه القوات، وغلطة عمره لسمير جعجع. يُمكنه أن يلعب أينما يريد، أما في بشرّي فلا يقدر أن يدعس على كرامات الناس». لذلك، يقول إنّه «أبلغت جو خليفة رحمة أنّ الخيار لهم (مجموعة الشباب المستقلين) في اختيار مرشح. فنحن في القرن الـ٢١، لا أحد قادرٌ على أن يفرض شيئاً على بشري، أو أن يُنصّب نفسه شيخاً وزعيماً». هذه المرّة، «يجب أن تكون مصلحة بشرّي فوق أي اعتبار. فليُنَظَّم استطلاع رأي وعلى أساسه يكون الاختيار». حليف طوق الأساسي «العهد. قلبي مع فرنجية، ولكن عقلي مع الوزير جبران باسيل، فأنا أثق بخيار الرئيس ميشال عون الاستراتيجي الذي سينهض بلبنان». خطابه غير موجه ضدّ القوات، «بل مع بشرّي. هل يُحارب المرء أهلَه؟ جعجع من أهلي، ولكن لا أثق به. الناس تريد من تلجأ إليه وتقدر أن تتواصل معه. أين هو سمير جعجع؟ هو الذي فصل بشرّي عن القوات».





عيسى الخوري: النجدة يا عون ونصرالله!

الأكثر تشاؤماً بين المعارضين البشراويين للقوات، هو روي عيسى الخوري. يشكو «كثرة الطباخين» في صفوف المعارضة. يقول إنّ همّهم جميعاً «خرق القوات اللبنانية بمقعد. ولكن التنسيق لا يزال ناقصاً، لم نوحد أدوات المعركة». الحلّ الأمثل، بالنسبة إليه، بأن يتفق التيار الوطني الحر وتيار المردة، على عدم ترشيح أكثر من شخص حتى «ما نفرفط»، كاشفاً أنّ النائب سليمان فرنجية طلب سابقاً «الاتفاق على اسم لنتمكن من خرق الخصم، خاصة أنّ تيار المردة لم يحسم بعد تحالفاته»، علماً أنّ مصادر تيار المردة تؤكد لـ«الأخبار» التوجه إلى التحالف مع جبران طوق. الكلام على ضرورة توحيد الجبهة، «حصل أيضاً خلال جلسة مع الوزير باسيل».
الدعوة إلى الوحدة، لا تعني استعداد عيسى الخوري للتخلّي عن «الحقّ» بالترشح بسهولة، «منذ 40 سنة وأنا موجود. إذا جبران طوق مُرَشَّح، فممكن أن نتفق على التنازل له. وإذا لم يكن مُرشحاً، فمع احترامنا للجميع، الأفضلية لنا». يستبعد عيسى الخوري أن يتمكن طوق من تجيير الأصوات لنجله ويليام، لأنّه أصلاً «آل طوق غير مُتفقين على مُرشح بعد». ولا يبدو عيسى الخوري مُتحمساً لأن يترشح شخص جديد من خارج الثلاثي (جبران وسعيد طوق وروي عيسى الخوري): «ستكون هناك صعوبة لتجيير الأصوات وإقناع الناس به. المستقلون المعترضون ليسوا قادرين على تجيير أكثر من 1000 صوت». فضلاً عن أنّ قيادة معراب بدأت العمل «لإعادة استمالة القواتيين الناقمين، وهي تستطيع، على مستوى القضاء، إقناع عددٍ كبير منهم بالعودة إلى صفوفها». يدعو عيسى الخوري، «من أجل المصلحة العامة»، إلى أن يتحرك الرئيس ميشال عون والأمين العام لحزب الله حسن نصرالله «ويتوصلا للمّ الشمل بين العونيين والمردة، فينعكس ذلك على بشرّي». وإلّا، فسيكون لكلّ تيار مُرشح، وتتشتت الأصوات، «فنترشح من أجل تثبيت الوجود فقط، ونقول لستريدا مبروك، قبل 7 أشهر من الانتخابات النيابية».







مَقعد الحظ!

الثابت في قضاء بشرّي، لناحية الترشيحات إلى الانتخابات النيابية، ترشُّح النائبة ستريدا جعجع ومسؤول القوات في القضاء جوزف إسحاق. لم يمرّ ترشيح الأخير على خير، فقد اعترض عددٌ من أبناء مدينة بشرّي على اختيار المُرشح الثاني من حصرون وليس من «العاصمة». هذه النافذة قد تسمح للمعارضين بالتسلل والفوز بالمقعد الثاني، خاصة أنّ حظوظهم للربح في ظلّ النظام النسبي قد ارتفعت نظرياً. فالنسبية تمنحهم القدرة على الفوز بمقعد في بشري، نتيجة عملية حسابية هي أشبه بلعبة الحظ. فإذا ما تشكلت لائحة في دائرة الشمال الثالثة تضم، على سبيل المثال، القوات اللبنانية والنائب فريد مكاري وتيار المستقبل وميشال معوض، فمن المتوقع أن تفوز بأربعة مقاعد. وإذا عجزت القوات عن توزيع أصواتها التفضيلية في بشرّي على مرشَّحيها بالتساوي، وأدّت النتائج إلى حجز هذه اللائحة للمقاعد الأربعة في الدائرة على النحو الآتي: مقعد في بشرّي، مقعد في الكورة، مقعد في زغرتا ومقعد في البترون؛ فإن ذلك يعني أن هذه القوات خسرت حتماً المقعد الثاني في بشرّي. وفي ظل إصرار معارضي القوات على التشتت، تبدو لعبة الحظ هذه أملهم الوحيد.