تحت السماء «الزرقاء» في البقاعين الأوسط والغربي، يُمهّد التيار الوطني الحر لتقديم خطاب سياسي جديد في البلدات ذات الغالبية السنّية، بعيداً عن تيار المستقبل. يدق العونيون أبواب القرى البقاعية، عارضين الحوار مع فاعليات محلية كانت تتوجس من الخطاب العوني «العدائي تجاه السنّة». التحرك العوني ليس حديثاً، بل يعود إلى عام 2008.
الجديد أنّ «التيار» بات يتعامل مع الملف بجدّية أكبر. يحدث ذلك تحت أعين التيار الأزرق، من دون أن يكون قادراً على الاعتراض. وكأنّ «المستقبل» يتحول إلى غريبٍ في بقاعٍ لم تتعامل معه إلا بكرمٍ، فيما هو أهملها. الكسل التنظيمي، وتوقف الخدمات، وتراجع الاهتمام المركزي بـ«الأوسط» و«الغربي»، فتحت الباب أولاً أمام الوزير السابق أشرف ريفي ليقطف من كروم الناقمين على آل الحريري، حتى ولو لم يظهر بعد أي مدى لتحرّكه. المرحلة الثانية من «غزو» المناطق ذات الطابع السنّي يتولاها التيار الوطني الحر، الذي ينجح في اكتساب ثقة من كانوا يعتبرونه «شريك حزب الله والنظام السوري».
في الأصل، لم تُقدّم الحالة العونيّة نفسها كحركة طائفية تخصّ المسيحيين فقط. العديد من الناس ارتاحوا إلى خطاب العماد ميشال عون الوطني، وتبنّيه خيار الدولة العلمانية. فشكّل «التيار» حالة استثنائية في الحياة السياسية، قبل أن يأخذ الخطاب البرتقالي طابعاً طائفياً وشعبوياً، قائماً على «تأمين حقوق المسيحيين». آخر علامات هذا الخطاب ظهرت خلال البحث عن قانونٍ جديد للانتخابات النيابية، يوم أبلس رئيس «التيار» جبران باسيل النسبية، مُحولاً إياها إلى «عدّو للمسيحيين».
مع بداية العهد الجديد، وجد «التيار» أنّه لم يعد بإمكانه أن يحدّ نفسه بإطار «مسيحي». تحدّث باسيل عن طموح حزبه أن يكون «التيار السنّي الثاني»، فسخر منه كثيرون. لكنّه لم يكن يُردّد مُجرّد «شعار»، بل عبّر عن نيّة حقيقية في التوسع داخل البلدات ذات الأغلبية السنية. الإشارة الأولى كانت بتوزير طارق الخطيب من حصروت (الشوف). أما الخطوة الثانية، فتتجلّى في البقاعين الأوسط والغربي.

تقول مصادر بقاعية
إنّ «المستقبل»
أضعف من أن يتمكن من إقفال الطريق
على تمدّد العونيين


العونيون المُطلعون على هذا الملف يقولون إنّ الأمر بدأ منذ عام 2008، «خلال الخلوة التنظيمية التي عقدتها هيئة قضاء زحلة». وعى «التيار» أهمية «تذليل سوء التفاهم مع كلّ المكونات اللبنانية. أكبر مجموعة عونية سنية كانت في قبّ الياس. بعد 7 أيار، ارتفعت النقمة ضدّنا، فكان لا بُدّ من حلّ». عام 2011، نُظمت ندوة في زحلة عنوانها «عون والوجدان السنّي»، حاضر فيها الدكتور نواف كبارة، والقيادي العوني السابق زياد عبس، «نوقشت خلالها زعامة عون بالعمق». الخطوات الشكلية، استُتبعت في 2013، بزيارة عون للبقاع الأوسط، وعقده سلسلة من اللقاءات «أبرزها مع شخصيات سنية، قسمٌ منها مُعارض له. خرج الجنرال من هذا اللقاء مُرتاحاً، نظراً إلى صراحة الحاضرين في التعبير عن موقفهم». محاولات جدّية للخرق بدأت على مستوى محلّي من قِبل هيئة قضاء زحلة، لكنّها بقيت مُحاصرة بسبب «عدم وجود رؤية واضحة للمتابعة، فضلاً عن تلهّي التيار بالأمور التنظيمية».
عدّة أسباب دفعت إلى إعادة تشغيل العونيين لمحركاتهم في البقاعين الأوسط والغربي. تعتبر مصادر من «الأوسط»، تُشارك في الحوار مع التيار العوني، أنّ الأخير «برئاسة باسيل، يهمه إعطاء مظلّة وطنية لعمله، وإصلاح الخلل الذي وقع بعد عودة عون من فرنسا، وإعلان تفاهم مار مخايل مع حزب الله، وشيطنة من كانوا رموزاً لغالبية أبناء الطائفة السنية». في المقابل، باتت هناك «إمكانية لوجود التيار في المناطق السنية، على الأقل اجتماعياً». في السنوات السابقة، كان الشارع البقاعي مُتقدماً على قيادة تيار المستقبل «في المواقف المُعارضة لكل مكونات 8 آذار. ولكن، نتيجة أخطاء المستقبل والتسويات التي أقدم عليها، بات الناس يشعرون بأنه يتم استغباؤهم والتعامل معهم بفوقية. دبلوماسية المناسف لم تعد تنفع، فالشارع بحاجة إلى خدمات وحماية سياسية واجتماعية».
تحت مظلّة لجنة العمل الوطني في «التيار»، بدأ النقاش بين العونيين ونُخب من الفاعور وسعدنايل وزحلة ومجدل عنجر وبرّ الياس، تُمثل ناشطين في الشأن العام، رجال دين، ونقابيين. عُقدت جلسة عمل أولى، على مدى أكثر من ثلاث ساعات، «طُرحت خلالها كلّ هواجس هؤلاء: الغُبن على صعيد وظائف الدولة، التحريض ضدّ الطائفة، واتهامها بالإرهاب. كما جرى الاتفاق على تكريس العيش المشترك وتحييد البقاع عن الخلافات». يجري الآن التحضير لعقد جلسة ثانية، والانتهاء من الوثيقة التي سيوقعها الطرفان وتكون خريطة طريقٍ لنشاطهما.
العمل من داخل ملعب تيار المستقبل، من شأنه أن يثير حساسيته. لكنّه «بات أضعف من أن يتمكن من إقفال الباب على تمدّد التيار»، بحسب مصادر بقاعية. أما بالنسبة إلى العونيين «فليس الهدف انتساب هؤلاء إلى التيار، بل تذليل سوء التفاهم معهم، والبحث عن نقاط تلاق. كما أنّ الحراك لا يهدف إلى زكزكة المستقبل». وتشرح مصادر «التيار» أنّها لم «تدخل» إلى البيئة عن طريق تيار المستقبل لأنّ «الهدف بناء تفاهم شعبي، وليس علاقة حزبية. هؤلاء الناس كانت هناك مُشكلة معهم، في حين أنّه مع المستقبل يوجد اتفاق سياسي».
يُقسّم العونيون حراكهم البقاعي إلى ثلاثة مستويات: تقديم الخدمات، تنظيم المحازبين والكوادر، ورسم صورة إيجابية عبر الحوار. لا يزال التحرّك خجولاً، «وقسمٌ منه يوضع في إطار جسّ العونيين لنبض الشارع»، تقول المصادر البقاعية، علماً بأنها تُقارب الموضوع بكثير من الإيجابية. فهل تكون هذه بداية انطلاق «التيار السنّي الثاني»؟ ترّد المصادر المُشاركة في الحوار «لا أحد يقول ذلك، بل نحن نؤمن مظلّة وطنية».




«التيار» في البقاع الغربي: لا نريد استفزاز «المستقبل»

لا يقتصر نشاط التيار الوطني الحر على البقاع الأوسط. ففي البقاع الغربي أيضاً، حركة فاعلة لهيئة القضاء، ولا سيّما على صعيد الخدمات في البلدات ذات الغالبية السنية. يقول أحد السياسيين في المنطقة، وهو حليفٌ للعونيين، إنّ «المستقبل ينزعج من عمل التيار». لكن بحسب مصدر عوني «لم نسمع ذلك. الذين ينزعجون أكثر هم جماعة (الوزير السابق) أشرف ريفي. فنحن نتواصل مع المستقبل، لنُطمئنهم الى أنّنا لا نريد استفزازهم، وإلى أنّنا نتواصل ونخدم أشخاصاً هم أصلاً بعيدون عن الحريري». مع إشارة المصدر، رداً على سؤال، إلى «ارتياح جماعتنا أكثر إلى الوزير السابق عبد الرحيم مراد، الذي تربطنا به علاقة جيدة». يتحدّث المصدر عن «ارتياح الشارع السنّي أكثر تجاهنا. بدأنا تنظيم العناصر، وتشكيل هيئات في البلدات والقرى، ولكن من دون افتتاح مكاتب لأنّنا لسنا بصدد افتعال الخلافات».
وجود العونيين في «الغربي» لن ينحصر بتقديم الخدمات، ولا سيّما عبر مُستشار وزير الطاقة شربل مارون. بل هناك تحضير للمطالبة بـ«مشروعية» الحصول على المقعدين النيابيين المُخصصين للمسيحيين، بعدما كانا يتأرجحان بين النائب إيلي الفرزلي وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي. ويبرز، حزبياً، اسم رندلى جبور عن المقعد الماروني.