«عندما تدرك أن لا انسياب للمنافع من الأعلى، فسيتبين لك أن الخفض المفرط للضرائب على الأغنياء ما هو إلا إعادة توزيع للدخل من الأسفل إلى الأعلى، بدلاً من كونه وسيلة لجعلنا كلنا أكثر غنى كما يقولون لنا دوماً»ها جون شانغ

رشح عن اجتماع مجلس الوزراء الأسبوع الماضي ما يمكن تسميته شعار المرحلة "لا سلسلة من دون ضرائب"، وعلى إثر ذلك عاد النقاش، الذي لم يتوقف أصلاً، بحدّة أكبر حول السلسلة والضرائب وصولاً الى البحث في ايقاف العمل بالسلسلة عبر العودة الى مجلس النواب.

إن هذه الجولة الجديدة، والتي تنذر باستفحالها، ما هي إلا مؤشر آخر على استفحال الصراع الاجتماعي الذي يعكس بشكل أساسي أزمة الرأسمالية اللبنانية.
يسأل البعض لماذا هذا الانفجار اليوم؟ كما يُسأل اليوم: ماذا حصل؟ ولماذا لا تمرّ السلسلة والضرائب بسلاسة وبالتحكم التلقائي (cruise control) كما مرت أكثر السياسات الاقتصادية والاجتماعية منذ عام 1992 وحتى الآن؟ وكيف فجأة أصبح بعض اللبنانيين دستوريين متطرفين عندما أتى الأمر إلى أسطورة "الازدواج الضريبي"؟ إن الأجوبة على هذه الأسئلة يمكن أن تكون مباشرة ولكنها في العمق ناتجة عن نواح عدّة بدأت تترسخ مؤخراً في الاقتصاد اللبناني.
أولاً، إن المعضلة الأساسية التي تقف عقبة أمام التغيير أو حتى الإصلاح بحدوده الدنيا هي تجذر المصالح الريعية وقيام ما يمكن تسميته بطبقة الـ 1%، والتي ترفض التخلي ولو عن جزء بسيط من مكاسبها التي حققتها في العقود الماضية. وهذا يفسر هذه الهستيريا غير المبررة للهيئات الاقتصادية تجاه زيادات طفيفة على الضرائب على انواع الأرباح، والتي يبلغ معدلها الفعلي حوالى الـ 4 بالمئة، أي إن هذه الـ 1% وغيرها من أطراف الراسمال، التي لا يتأتى دخلها من العمل، متفلتة فعلياً من الضرائب، أو كما يقول المثل الأميركي (getting away with murder). والأنكى من كل ذلك، أن هذه الطبقة تفتقر حتى الى ظهور مجموعات أو حتى أفراد من صفوفها تطالب هي بالتصحيح وزيادة الضرائب على نفسها كما يحدث في أميركا اليوم. إن هذا التزمّت من قبل هذه الطبقة جعل من السهل التصويب عليها سياسياً. بل أكثر من ذلك فإن أي متتبع موضوعي لما جرى ويجري لا يمكنه إلا أن يرى انحلالها وعدم أهليتها حتى على البناء الرأسمالي.
في هذا الإطار، أصبح من السهل التفكير وحتى طرح مشروع اقتصادي إنقاذي يعتمد على تحويل وصولاً الى 10 بالمئة من الناتج المحلي من مداخيل هذه الطبقة سنوياً، اي من التخزين والاستهلاك غير المجديين، نحو بناء البنى التحتية وخفض الدين العام والى الأجور، مما سيؤدي إلى رفع الإنتاجية في الاقتصاد (التي تتغنى فيه فقط الهيئات عندما تتكلم عن القطاع العام وكأن إنتاجية القطاع الخاص تنقلنا الآن الى كوريا جنوبية ثانية أو تايوان ثانية!)، وتؤدي الى زيادة الطلب الكلي، وبالتالي الى خروجنا من الركود الطويل الأمد الذي يقبع فيه الاقتصاد اللبناني.
ثانياً، استشراء أزمة نظام الطائف، وهذا التأزم المتسارع يؤدي أيضاً الى انعكاسه في الاقتصاد السياسي. فاتفاق الطائف اعتمد على التوافق بين الرأسمالية اللبنانية والنظام الطائفي فكان من نتيجته أن الدين العام كان يلعب دور تشحيم آلية نظام الطائف التوزيعية، والأهم إضفاء الشرعية على النظام الجديد. فكان تقسيم العمل واضحاً منذ البداية بين الراسمال والنظام السياسي الجديد، وكانت فترة من "شهر العسل" امتدت من 1992 الى 2000. ولكن كما قال ابو الراسمالية، آدم سميث، فإن تقسيم العمل يحده مدى الأسواق، أي إن توسع الاسواق يؤدي الى المزيد من تقسيم العمل وهكذا دواليك. ومن هنا عندما دخل الاقتصاد اللبناني في الأزمة انطلقت هذه الأزمة الى الدولة فتم تدميرها لأن لا مكان للاثنين (الدولة والرأسمال) في ظل جشع الرأسماليين.

ستضمحل الدولة ويضمحل الاقتصاد إذا لم يخسر
الرأسمال هذه المعركة

قيل لي إنه في احدى المقابلات التلفزيونية قال أحد هؤلاء الرأسماليين إننا بحاجة إلى ثلاثة اقتصادات مثل الاقتصاد اللبناني لتحمل السلسلة. بالطبع، هذا صحيح، لأن الاقتصاد الوحيد الذي نملكه ابتلعه كله الرأسمال! وهنا فإن أجزاء من السلطة بدأت تنظر إلى طبقة الـ 1% على أنها تهدد تقسيم العمل هذا وبدأت بطرح إما بعض البرامج الاقتصادية وإن بدائية (خطط وزير الاقتصاد والتيار الوطني الحر وغيرها) تحاول الذهاب الى ما بعد الاقتصاد الريعي، أو بالإصرار على فرض الضرائب الإضافية على المصارف والراسمال المالي والعقاري من قبل وزارة المالية. إذاً، إن بعض الأحزاب الحاكمة بدأت تعي أن هذه الطبقة لا بد أن تدفع ثمناً أكبر للحفاظ على النظام ككل، وهنا تكمن بوادر إمكانية قيام مشروع سياسي في وجه منظري "الاقتصادات الثلاثة".
ثالثاً، دخول الطبقة المتوسطة معترك الصراع الاجتماعي. في الفترة الممتدة بين 1993 و1996 ضُربت النقابات وتمت تصفية الطبقة العاملة المنظمة تدريجياً. في نفس الوقت راود الحلم الراسمالي الجديد الكثير من اللبنانيين الذين اعتبروا أنفسهم خارج هذه المعركة. لكن ما حصل أعاد إدخالهم الى معترك الصراع الاجتماعي. فتجميد الأجور منذ 1996 لفترة طويلة وانخفاض حصة الأجور الى 25% من الناتج المحلي وارتفاع الضرائب الاستهلاكية وزحف الضريبة المباشرة على زيادة مداخيلها (انظر "لأخبار" http://www.al-akhbar.com/node/247263) وتكاليف المعيشة وبشكل مطرد خصوصاً في التعليم والصحة والسكن... أدت إلى احساس ما يمكن تسميته "الطبقة المتوسطة" بأنها تُعصر من كل الجوانب، مما اخرجها من هذا الحلم وأدخلها الى معركة الاقتصاد السياسي، وإن بشكل عشوائي ومشتت، وتمظهر هذا الدخول والتشتت في رفض "الضرائب" من جهة وفي التمسك بالسلسلة من جهة أخرى في الوقت عينه.
ما دفع الطبقة المتوسطة الى هذه المعركة أيضاً انتهاء مرحلة "الحل المالي" للفجوة المتراكمة بين الأجور وبين أكلاف المعيشة، فارتفع الدين الخاص من قروض شخصية لشراء السلع المعمرة والإنفاق الجاري حتى وتصفية بعض الأصول الموروثة (مثل الأراضي) ولكن هذا الأمر وصل إلى حده الأقصى. فإذا قارنّا بين وضع الأسرة النموذجية في عام 1992 التي كانت تمتلك إيجاراً قديماً ولديها قروض قليلة ولا بطاقات اعتماد ولا غيرها. أما اليوم فوضع الأسرة المتوسطة هو أنها مثقلة بالديون وتعيش حالة من انسداد الأفق في زيادة مستوى معيشتها وحتى ولو اصطناعياً.
رابعاً، لعب سعر الصرف دوراً في كبح جماح الصراع التوزيعي. فالتثبيت الذي حصل بدءاً من 1992 أدى إلى تخفيف الضغط على سياسات إعادة التوزيع النابعة من مجموعات المصالح في المجتمع. وهذا الأمر حصل أيضاً في بلدان عديدة. فقد أدّى توسّع الديموقراطية في أوروبا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي إلى خفض قدرة الحكومات على الدفاع عن قيمة عملتها مهما كانت الكلفة. أما في لبنان فقد استطاعت الحكومات المتعاقبة الدفاع عن قيم العملة عبر كبح الصراع التوزيعي خصوصاً بين الراسمال والعمل. كما أدى ارتفاع القيمة الحقيقية لليرة اللبنانية إلى زيادة الأجور الحقيقية في المرحلة الاولى بين 1992 و1997 ما وفّر دعماً واسعاً للنظام الجديد أيضاً. وهذا أيضاً حصل في بلدان عديدة. في هذا السياق يقول الاقتصادي روديجر دورنبوش: "إن ارتفاع قيمة العملة ترفع بسرعة الأجور الحقيقية على صعيد السلع القابلة للتداول، كما تؤدي إلى خفض التضخّم بسرعة. ومن غير المستغرب أن المبالغة في رفع قيمة العملة سياسة تحظى بإقبال كبير. وأدّى ذلك إلى ظهور دعم سياسي واسع قصير الأمد في تشيلي إبان حكم بينوشيه، كما لحكومة تاتشر وللسياسات الاقتصادية التي اعتمدها الرئيس الأميركي رونالد ريغان".
أما الآن، وفي لبنان، فإن إقرار السلسلة وما قد يتبعه من انتقال الحمى إلى الأجور في القطاع الخاص، بالإضافة الى التهديد الذي يشكله استمرار عجز ميزان المدفوعات على سعر الصرف وذهاب المصرف المركزي الى خيار ما سمي بـ "الهندسات المالية" المكلفة جداً، قد يضع نهاية لاستعمال سعر الصرف ككابح للصراع التوزيعي بين الراسمال والعمل، مما يؤشر الى دخول البلاد في مرحلة جديدة على هذا الصعيد.
نشرت اخيراً مجلة البوليتيكو الأميركية مقالاً تحت عنوان "فلوريدا: الجنة التي لم يكن عليها أن تكون" بمناسبة إعصار ايرما، قالت فيه إنه في أوائل القرن التاسع عشر مع وصول طلائع من الجيش الاميركي الى الولاية اعتبر هؤلاء أنها غير قابلة للسكن و"مُنفرة على كل الصعد" و"شيطانية"، لأنها كانت منطقة مستنقعات تغمرها المياه. واستمر نمو الولاية متأرجحاً إلى أن أتت القوة الهندسية للجيش الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية وقامت بعملية ضخمة جداً لتفريغ وإدارة مياه جنوب الولاية؛ وهذا ما جعل في النهاية فلوريدا من أكثر الولايات غنى ومقصداً للمتقاعدين والسواح، وانتقلت من كونها الولاية الـ 27 من حيث عدد السكان إلى الولاية رقم 3. إذاً اليوم تستطيع فلوريدا أن تتحمل الاعاصير وتبقى، ليس لأنها بنيت بواسطة المضاربات العقارية (وهذا ذكرته البوليتيكو) ولا بسبب تطور مدينة ميامي بسبب تجارة المخدرات في ثمانينيات القرن الماضي (وهذا لم تذكره)، ولكن لأن الدولة الأميركية، من خارج الاقتصاد الحر، قررت أن تحول هذه البلاد "الشيطانية" الى مكان يعيش فيه عشرات الملايين من الناس. وهنا درس آخر للبنانيين أن الدولة ليست "رجل أعمال فاشل" كما يصورونها لنا الذين يبدو أنه لا يكفيهم اقتصاد واحد؛ بل هي أساس للتقدم والتطور. اليوم نحن وفي داخل هذه المعركة الاقتصادية السياسية نرى الحاجة، بالاضافة الى كسر طغيان الراسمال على العمل، الى اعادة قيام الدولة اللبنانية التي دمرها الراسمال في سعيه هذا للسيطرة على الاقتصاد من دون منازع. نحن بحاجة الى ذلك من اجل بناء اقتصاد يتحمل كل العواصف التي تلوح في الأفق. ولكن لتحقيق هذا، على الراسمال أن يخسر هذه المعركة اليوم بل يخسرها بأشواط وأميال لأنه من دون ذلك ستضمحل الدولة ويضمحل الاقتصاد وينتهي أمل اللبنانيين بالتغيير وبالعدالة الاجتماعية.