كل التقارير البيئية والصحية والهندسية، التي تدق ناقوس الخطر وتعلن مدينة بيروت مكاناً غير مناسب للعيش الكريم، لا تنفع في تغيير الذهنية التي تدير بلدية بيروت. فالمجالس البلدية المتعاقبة، تحت وصاية المحافظ، تتخلى عن العقارات الصالحة لتنفيذ مشاريع تُسهم في تحسين مستوى عيش السكان، لمصلحة عدد من ملاك العقارات والمطورين العقاريين الساعين إلى تعظيم أرباحهم وزيادة منسوب البشاعة الذي بات يسمُ وجه بيروت.
لا يوجد عائق حقيقي أمام تحويل مدينة بيروت إلى مدينة تحترم الحيّز العام وتبنيه وتوسّع استعمالاته. نقص العقارات، أو ندرتها كما يرددون، ليست سوى حجّة واهية، إذ تمتلك بلدية بيروت الكثير من العقارات في العاصمة، وتمتلك القدرة القانونية والمالية على امتلاك المزيد منها، لتنفيذ مشاريع تخدم البيئة والمجتمع والتنقل السلس داخلها، وتلبي احتياجات الأطفال وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والمشاة ومستخدمي الدراجات الهوائية. إلا أن المجالس البلدية المتعاقبة، في السنوات العشرين الماضية، فعلت عكس ذلك تماماً. باعت نحو 500 عقار إلى ملّاك وتجار بناء ومقاولين و«قبضايات» خنقوا المدينة بزنانير الباطون والأبنية العشوائية، فتضاعفت الكتل الإسمنتية على حساب الأرصفة والفسحات الخضراء والمتنفسات للأطفال والشباب والمسنين.

عقارات متناثرة في الأحياء المكتظة

عندما تنفّذ بلدية بيروت مشاريع شقّ شوارع أو توسيعها أو إقامة بنى تحتية وأبنية وتجهيزات تستخدم عقارات تملكها أو تستملك عقارات خاصة، ينتج من هذه المشاريع استهلاك للعقارات المملوكة والمستملكة وفق حاجات المشروع، وتبقى أجزاء من هذه العقارات غير مستخدمة.

منى فواز: «الفضلات العقارية هي جزء أساسي من مخطط التنقل السلس»
تسمّى هذه الأجزاء «فضلات عقارية»، وهي متناثرة في أرجاء المدينة وداخل الأحياء المكتظة، وتراوح مساحاتها من أمتار قليلة معدودة إلى مئات الأمتار المربعة.
لم تكتفِ مجالس بلدية بيروت المتعاقبة ببيع الفضلات الصغيرة، بل غالباً باعت الفضلات الكبيرة وحرمت المدينة وسكانها منفعتها العامة، ولا سيما أن هناك اتفاقاً عاماً على حاجة بيروت لكل شبر عام فيها من أجل تجميل صورتها وتوفير فسحات عامة تخفف وطأة الدخان الأسود والكتل الباطونية.
تقول المهندسة منى فواز، الأستاذة في التخطيط العمراني في الجامعة الأميركية في بيروت، والمسؤولة عن «بلدية بيروت البديلة» في «بيروت مدينتي»، إن «الفضلات العقارية هي جزء أساسي من مخطط التنقل السلس، وهي تشكل خزاناً من الفسحات الصغيرة الخضراء التي تسهل التنقل»، لذلك من المهم «ترك الفضلة كمساحة عامة ومتنفس للمواطنين والاستفادة من مساحتها لإنشاء مواقف تحتها ونقل السيارة تالياً من فوق الطريق إلى تحته». هكذا، وفقاً لفواز، «تصبح الفضلة جزءاً من شبكة تريح المدينة وتخلق عدة محطات فيها تصل المدينة بعضها ببعض، لتسهيل التنقل وتوسيع الأرصفة وزيادة فسحات المشاة».

كل متر مفيد

عندما أعلن مشروعه الانتخابي، ركّز رئيس بلدية بيروت (الحالي)، جمال عيتاني، على مشروع التنقل السلس وجعل بيروت منطقة خضراء. هذان المشروعان يجسدان طموحاً للسكان المحرومين أدنى الحقوق في المدينة. قدمت «إيل دو فرانس» المساعدة الفنية لتحقيق هذين المشروعين، إلا أن عيتاني رمى الدراسات والمخططات المنجزة وسار على درب أسلافه، وأطلق مثلهم حملة بيع الفضلات التي تمثل عنصر القوة للدراسات والمخططات.
بمراجعة قرارات المجالس البلدية، يتبين أن حجج بيع «الفضلات» تتعلق بـ«شكلها الهندسي» و«صغر مساحتها»، ولكن هذه الحجج لا تقنع المعماريين والمهندسين ومخططي المدن الذين يصممون مساحة جميلة في المدينة تقوم على 10 أمتار مربعة، مثلاً، وتضم مقعدين خشبيين و3 أشجار ليستخدمها سكان الحيّ المكتظ، أو يصممون موقفاً لسيارات الأجرة والباصات للتوقف ونزول الركاب أو صعودهم من دون عرقلة السير وسدّ الطريق... المدن تحتاج حتى لمتر مربع واحد كي تنتصب شجرة أو مزهرية أو مقعد أو نصب فني أو لوحة تُحيي الذاكرة... لا يوجد مانع اسمه «الصغر» أو «الشكل».
تشرح فواز أن التفريط بالفضلات العقارية «يضرّ المدينة بيئياً واجتماعياً، لأن العاصمة بحاجة لسلسلة من الفسحات الخضر، من أجل تحسين النقل عبر ربط الشوارع ببعضها، وتقليص استعمال السيارات، خفض مستوى التلوث، تشجيع المواطنين على السير والحفاظ على صحتهم، اللهو وخلق علاقة وطيدة بين المواطن ومدينته». وحتى في حال صغر مساحة الفضلة، بحيث لا يمكن الاستفادة منها كحديقة عامة وموقف للسيارات، تقول فواز: «يمكن الاكتفاء بزرع شجرة ومقعد خشبي إلى جانبها، عوضاً عن بيعها للمقاولين والمساهمة في زيادة عامل استثمارهم لزيادة الكتل الباطونية والأبنية العشوائية التي لا تعير أي اهتمام للمساحات الخضراء ضمنها».

بيع 500 فضلة عقارية

يبلغ المتوسط العالمي لحصة الفرد من المساحات الخضراء نحو 9 أمتار مربعة، ولكنه لا يتعدّى في بيروت 0.8 متر مربع، بحسب تقديرات «مشروع بيروت الأخضر»، الذي أطلق في عام 2013. يدرك المجلس البلدي لمدينة بيروت هذه الحقيقة ويتجاهلها. كما أظهرت دراسة أجرتها الجامعة الأميركية في بيروت أن المعدل السنوي لنسبة غاز «ديوكسيد النيتروجين» يبلغ 58 ميكروغراماً في المتر المكعب، بينما المعدل الأقصى الذي تسمح به منظمة الصحة العالمية هو 40 ميكروغراماً في المتر المكعب. يدرك المجلس البلدي ذلك، ولكنه لا يهتم، المهم تحقيق الربح المادي لبعض الأتباع وأصحاب النفوذ!

تراوح مساحات هذه الفضلات من أمتار قليلة إلى مئات الأمتار

قامت «الأخبار» بمراجعة قرارات المجالس البلدية. ويتبين أن معدل بيع الفضلات العقارية في الأعوام العشرين الماضية يقارب الـ500 فضلة عقارية. وعلى سبيل المقارنة، اختيرَت عيّنة من قرارات بيع الفضلات في 3 سنوات، موزعة على ثلاثة عهود، لثلاثة رؤساء بلدية متعاقبين، ليتبين أن المجلس البلدي برئاسة عبد المنعم العريس باع في عام 2009 وحده ما يقارب 35 فضلة عقارية. وفي عهد بلال حمد باع نحو 20 فضلة في عام 2015. وفي عهد جمال عيتاني باع 15 فضلة منذ أواخر آب 2016 حتى شهر أيار 2017.
تجدر الإشارة إلى أن عبد المنعم العريس، وعلى الرغم من إمعانه في بيع الفضلات العقارية، كان يشترط على الطرف الراغب بالشراء التزام القرار 836 الصادر في عهده، الذي يحدد شروط الفضلات وبيعها بالآتي:
1- إذا كانت مساحة الفضلة المطلوب شراؤها تبلغ 16 متراً مربعاً وما فوق، تزرع شجرة واحدة في كل 16 متراً مربعاً.
2- يترك 75% من مساحة الفضلة كفسحة خضراء، أو تترك مساحة موازية لمساحة الفضلة في العقار في مكان مرئي، والأفضل على الواجهة، وأن لا تكون المساحة الخضراء ممراً، وتخصيص نسبة 25% كموقف سيارات أو ممرات.
التزم العريس بهذا القرار إلى حد ما، إذ أُلغيَت عدة صفقات لم تطبق تلك الشروط، ولكن حمد وعيتاني تجاهلا هذا القرار كلياً، وآثرا بيع الفضلات من دون أي شروط أو قيود.

الجوانب القانونية

في بداية العام الجاري، عقد عيتاني مؤتمراً تحت عنوان «بيروت اليوم وبكرا»، عرض فيه المشاريع الملحّة، وأبرزها: زيادة نسبة المساحات الخضراء، موحياً باهتمام بلدية بيروت بمنفعة أهلها واستثمار أموالهم البلدية في خدمتهم. إلا أن الممارسة بقيت أسيرة الصفقات والتنفيعات.
حاولت «الأخبار» الوصول إلى المسؤولين في البلدية للاستفسار منهم بشأن قضية بيع الفضلات، إلا أن الأجوبة انحصرت بالجوانب القانونية. يقول عضو مجلس بلدية بيروت هاغوب ترزيان، إن «البلدية غير ملزمة ببيع الفضلات لأصحاب العقارات الملاصقة، ولكن يمكن الإدارة ضمن القانون إلزام صاحب العقار بشراء الفضلة». بدوره، ينفي أحد المسؤولين في التنظيم المدني أن يكون هناك قانون يلزم البلدية ببيع فضلاتها، ولكن يمكن صاحبَ العقار المجاور المطالبة بضمها إلى عقاره، وهو ما لا يحصل رسمياً من دون موافقة محافظ بيروت على الطلب، أي بموافقة المحافظ زياد شبيب حالياً.




فضلات للقبضايات

يسطو بعض «القبضايات» الحزبيين على العديد من الأملاك البلدية والفضلات من دون أن يردعهم أحد. فقرب تعاونية صبرا في بيروت، على سبيل المثال، هناك فضلة عقارية ملك لبلدية بيروت ولأهاليها، وكان يعتزم رئيس بلدية بيروت السابق بلال حمد أن يحولها إلى حديقة عامة. غير أن الواقع بدّد نيات حمد، بعد أن تبيّن أن هذه الفضلة يسيطر عليها منذ أعوام أحد «قبضايات» المنطقة من أتباع تيار المستقبل، وباتت اليوم مقسَّمة إلى جزأين: الأول سوق خضار، والثاني مقهى لألعاب القمار. تغلبت المنفعة الحزبية على المنفعة العامة، فتركت الفضلة لحكم القبضايات المحميين وحرم سكان الطريق الجديدة فسحةً خضراء كان يمكن أن تشكل متنفساً للعديد منهم.




حجج أقبح من ذنب

بالاستناد إلى قرارات المجالس البلدية في بيروت، تُستخدَم الحجج الآتية لبيع الفضلات: «الفضلة غير صالحة للاستعمال العام بسبب شكلها الهندسي ومساحتها»، «أرض بور غير قابلة للاستثمار»، «شكل الفضلة الهندسي ومساحتها يجعلانها غير قابلة للاستعمال العام»، «خالية من أية إنشاءات عامة والتخطيط منفذ أمامها»، «لم تعد ضرورية لتحقيق المنفعة العامة».