تُعدُّ الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ شكلاً من أشكال الخصخصة، باعتبارها ترتيباً تقوم من خلاله الدولة بالتعاقد مع القطاع الخاصّ لتنفيذ مشروعات عامّة مختلفة. ظهر هذا النوع من العقود والامتيازات في التسعينيات من القرن الماضي، كردّ فعل على فشل سياسات الخصخصة، وهي سياسات يُعاد النظر فيها، راهناً، في أكثر الدول الرأسماليّة (بريطانيا على سبيل المثال)، وباتت "الشراكة" هي الوصفة الجاهزة التي تفرضها المؤسسات الدولية على الدول الضعيفة والتابعة لنقل الثروة إلى القطاع الخاص، باعتبار ذلك ثمناً ضرورياً لمعالجة أوجه التخلّف والقصور في البنى التحتية والخدمات، حتى ولو كان هذا الثمن يرتّب أكلافاً كبيرة لا تنحصر بالكلفة الأعلى لتنفيذ المشروع عبر الشركات الخاصة بالمقارنة مع كلفة تنفيذها عبر القطاع العام.
ليس هناك تعريف محدد لعقود الشراكة مع القطاع الخاص، ففي القانون الذي أقرّه مجلس النواب أخيراً، يمكن تطبيق هذه العقود على كل شيء تقريباً، من دون أي استثناء. ولكن في القانون الفرنسي، على سبيل المثال، تُعرّف عقود الشراكة بدقة على أنها «عقود إدارية تكلّف بموجبها الدولة طرفاً ثانياً، ولمدّة معيّنة، بأداء مهمّة عامّة هدفها بناء وتحويل وصيانة واستثمار وإدارة منشآت أو معدّات أو أصول غير ماديّة ضروريّة لتوفير الخدمة العامّة، كما المشاركة في التمويل الجزئي أو الكلي، باستثناء المساهمة في رأس المال». وينص القانون الفرنسي بصورة واضحة ومن دون أي التباس على أنه «لا يمكن عقد اتفاقات الشراكة إلّا في حال عدم تمكّن الشخص العام من القيام وحده بتأمين الوسائل التقنيّة لتأمين حاجات عامّة، وأن يكون المشروع ذا طابع طارئ، أو يواجه أي وضع غير متوقّع يمسّ المصلحة العامّة، وأن يكون اللجوء إلى عقود مماثلة أكثر ملاءمة من العقود التي يديرها القطاع العامّ».

بروباغندا الشراكة

في لبنان، ترتكز عمليّة تسويق مفهوم «الشراكة» إلى «بروباغندا» قائمة على مجموعة من الركائز التي تبتعد عن تعريف مفهوم الشراكة، يعدّدها النائب ياسين جابر لـ"الأخبار"، وهي: «افتقار الدولة للموارد الماليّة، فشل الإدارة العامّة في مقابل نجاح القطاع الخاصّ، الحاجة الملحّة لتطوير البنى التحتيّة والاقتصاد، ونصائح المؤسّسات الدوليّة لتبنّي هذا النموذج»، ويتابع جابر «يأتي إقرار هذا القانون بعد عشر سنوات من الدراسات والبحوث والمناقشات، وهو يعفي الدولة من خيار الدين لتمويل مشاريع بنى تحتيّة لتطوير الاقتصاد، مقابل تمويلها وتنفيذها عبر القطاع الخاصّ الذي يستردّ أموالها من إيرادات يجيبها نتيجة استعمال المواطن لهذه الخدمات أو عبر تقاسم الأرباح مع الدولة. علماً أن فتح المجال للقطاع الخاصّ يبشّر بنتائج مختلفة، خصوصاً أن تجارب القطاع العام كانت فاشلة، وهناك نماذج كثيرة منها مرفأ بيروت وكهرباء لبنان». أمّا عن الآلية لإبرام عقود الشراكة فيقول جابر: «لن يتم وضع دفاتر شروط ولن ترسل إلى إدارة المناقصات، ما سيحصل هو أن كلّ بلديّة أو مؤسّسة عامّة أو وزارة تريد تنفيذ أعمال ومشاريع ما، ستطرحها من خلال الوزير المختص أو عبر المجلس الأعلى للخصخصة، حيث تقدّم الشركات عروضاً مختلفة، ويختار المجلس الأعلى للخصخصة العرض الأفضل، ويوافق عليه مجلس الوزراء، وهو ما سيتيح المجال لتنفيذ مشاريع ضخمة مثل سكة الحديد والأوتوسترادات السريعة والمدن الرياضيّة...».

على ماذا ينصّ القانون؟

عملياً، لا يسعى القانون الجديد إلى تنظيم أعمال ومشاريع محدّدة لا تلحظها القوانين النافذة، بل يسعى إلى نقل أصول الدولة ومهامها إلى القطاع الخاص، تحت ذريعة فشل الإدارة العامّة. فبدلاً من تشجيع القطاع الخاصّ للقيام بمشاريع استثماريّة تساهم في مراكمة المزيد من رأس المال وخلق فرص عمل وزيادة المداخيل وتحرّك الدورة الاقتصاديّة... يتعمّد القانون التركيز على نقل السيطرة على رأس المال الموجود أو المتاح من الدولة إلى القطاع الخاص، وذلك بهدف رئيس هو مساعدة المصارف على توظيف سيولتها المتراكمة بعدما باتت الموجودات المصرفية تتجاوز نسبة 400% من مجمل الناتج المحلي.

بدل أن تسجّل
الدولة المبالغ المترتبة عليها في الدين
العام تخفيه
وتدفعه أقساطاً سنوية من الموازنة

بحسب الأسباب الموجبة المرفقة مع اقتراح القانون، تشمل عقود الشراكة تنفيذ مشاريع مختلفة ومتنوعة، من ضمنها السجون والثكنات، والمعامل الحراريّة لإنتاج الطاقة، والسدود، والطرق، والجسور، وسكك الحديد، والمطارات، والمدارس، والمستشفيات، ودور الرعاية، والملاعب الرياضيّة، وغيرها من المنشآت... وينصُّ القانون في مادته الأولى على أن يشتمل عقد الشراكة (قد تصل مدّته إلى 35 عاماً) على «كل العلاقات التعاقديّة والتعاونيّة بين القطاعين العام والخاص، بما يتضمّن التمويل والإدارة، وإحدى العمليّات التالية: التصميم والإنشاء والتشييد والتطوير والترميم والتجهيز والصيانة والتأهيل والتشغيل»، أي بمعنى آخر نقل كلّ الوظائف التي تقوم بها الدولة إلى القطاع الخاصّ. فيما تسحب المادة الثانية صلاحية الهيئات المنظّمة للقطاعات بحيث لا يمكنها «تعديل أسعار الخدمات في العقد، وفرض غرامات، وتعليق وتجديد وإلغاء وسحب التراخيص»، كما تُخضع «قطاعات الاتصالات والكهرباء والطيران المدني لأحكام هذا القانون» على الرغم من وجود قوانين نافذة منظّمة لها. كذلك تمنح المادة الرابعة صلاحيات لـ«رئيس المجلس الأعلى للخصخصة» (وهو رئيس مجلس الوزراء) تعود الى الوزير المختص من خلال «اقتراح المشاريع»، وهو ما يعني سحب صلاحية الوزير ضمن نطاق وزارته وتحويلها إلى رئيس مجلس الوزراء وإعطاءه صلاحيّات استثنائيّة للسير بأي مشروع متعلّق بالمنفعة العامّة والملك العام وتحويله إلى القطاع الخاصّ، كما تجيّر صلاحيات الوزارات «لناحية إعداد الدراسات والموافقة على السير بالمشاريع إلى المجلس الأعلى للخصخصة»، وهو ما يعني إعطاء صلاحيات واسعة للمجلس الأعلى للخصخصة. كذلك، تعارض المادة التاسعة، أحكام المواد 78 و144 من قانون التجارة، إذ تعفي «شركة المشروع من وجوب أن يكون ثلث رأسمالها لمساهمين لبنانيين، وأن تكون أكثريّة أعضاء الإدارة من اللبنانيين»، كما تعفيها من «موجب حصول رئيس مجلس الإدارة والمدير العام على إجازة عمل إن كانا من الأجانب»، على أن «يتمثّل الشخص العامّ بعضو واحد على الأقل في مجلس الإدارة». أمّا الأفضح فهو «إعفاؤها من موجب تعيين مفوض رقابة، ومن رقابة ديوان المحاسبة» أي عملياً تفلّتها من أي رقابة مسبقة ولاحقة على أموال عموميّة. فيما تطيح المادة العاشرة بسيادة القضاء اللبناني من خلال حصر البت بالنزاعات التي قد تنشأ مع شركة المشروع «بالوساطة والتحكيم الدولي». واللافت هو ما تنصّ عليه المادة 13 عن «وضع الشخص العام بتصرّف المشروع العقارات العائد له واللازمة لتنفيذ المشروع طيلة مدة العقد، أو استملاك عقارات خاصّة لصالح شركة المشروع». أمّا المادة 14 فتلحظ «نفقات المشروع التي تقع على عاتق الدولة في موازنة الدولة العامّة» وهو ما يعني ترتيب ديون على الدولة دون تسجيلها في الدين العام دفعة واحدة بل عبر دفعات سنوية تمثل الاعتمادات أو المشتريات.

مسار القانون

يعود تاريخ هذه القانون إلى عام 2007، خلال حكومة فؤاد السنيورة الأولى، عندما أعدّ وزير المال في حينها جهاد أزعور، مشروع قانون مع الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد الحايك وعدد من مستشاري فريق السنيورة يطلق عمليات الخصخصة دون العودة إلى أحكام الدستور وقوانين الأملاك العوميّة ونقل الاحتكارات ومنح الامتيازات، وأرسلته الحكومة إلى المجلس النيابي، فرفض الرئيس بري تسلّمه، نتيجة الخلاف السياسي في حينه بين فريقي 8 و14 آذار. مع تأليف حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى في عام 2009، أعاد النائب علي حسن خليل تقديم اقتراح القانون نفسه، فتألفت لجنة وزاريّة لدراسته عام 2010، ولم يعترض عليه سوى الوزيرين شربل نحّاس وابراهيم نجّار، والأخير قدّم نسخاً عن قوانين الشراكة الفرنسيّة والبريطانيّة والأميركيّة، أردفها برسالة يطلب فيها من واضعي مشروع القانون قراءة نصوص القوانين»، نظراً للفروقات الجوهريّة في تعريف «الشراكة، ولمخالفته أحكام الدستور والقوانين النافذة.

التجارب غير مشجعة

عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاصّ موجودة في لبنان قبل إقرار القانون، وأغلب النماذج المعمول بها أثبتت فشلها وهدرها الأموال العامّة دون تحقيق أي منفعة، مثل العقود مع سوكلين، وشركات الخليوي، ونموذج كهرباء زحلة، ومقدمي خدمات جباية وصيانة الكهرباء واستثمار المواقع الطبيعية والاستراحات والسوق الحرة في مطار بيروت وغيرها... حيث تعدُ كلفتها هي الأغلى في العالم مقابل أسوأ الخدمات.

الشراكة موجودة
في لبنان قبل
إقرار القانون
وأغلب النماذج المعمول
بها أثبتت فشلها

في مقال نشره «صندوق النقد الدولي»، في سبتمبر الماضي، ويستند فيه إلى ورقة عمل حول «الأبعاد الاقتصاديّة الكليّة للشراكات بين القطاعين العام والخاصّ»، يوجد إقرار «بوجود دراسات تشير إلى أن هذه الشراكات قد تكون أكثر تكلفة من المشتريات التقليديّة التي تنشئ فيها الهيئات العامّة بمفردها أصول البنية التحتيّة أو تتعاقد مع مموّل خاص لبنائها» وأن قائمة النفقات الإضافيّة التي تتكبّدها الشراكات طويلة تتضمن «عدم قدرة القطاع الخاصّ على توزيع المخاطر على نطاق واسع مثل القطاع العام، بحيث يصبح العائد المدفوع إلى الشريك الخاصّ أعلى من سعر الفائدة على الدين الحكومي. وعدم قدرة الحكومة على تجنّب التكلفة الإضافيّة المرتبطة برصد امتثال الشريك الخاص. كما تنامي حجم التكاليف الإداريّة المرتبطة بإعداد العطاءات وتنفيذها في حالة العقود طويلة الأجل». إضافة إلى «عقد مفاوضات مكلفة ومتكرّرة للعقد الأصلي لمجابهة حالات طارئة خلال العقود الطويلة الأمد الممتدة إلى 30 سنة». طبعاً، يأتي هذا الإقرار الواضح كمقدمة لطرح مفاضلة من قبل الصندوق تعتبر أن الكلفة الإضافية الناتجة عن عقود الشراكة «تشكّل نصف الصورة، كون النصف الآخر ينطوي على ما يقدّمه الشريك الخاص من خبرات فنيّة أعلى وقدرات تنفيذ أكبر وضغوط أقل لتحقيق الأهداف السياسيّة في وقت أقصر والحصول على بنية تحتيّة أفضل»، ويخلص الصندوق إلى أن «الشراكات بين القطاعين العام والخاص تكون المفضّلة إلا إذا كان الفرق في التكاليف كبيراً جداً».

دين مخفي!

يعتبر الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، الوزير السابق شربل نحّاس، أن «الشراكة هي حملة تسويقيّة لشكل من أشكال الهندسات الماليّة في لبنان»، باعتبار أن «للدولة آلية عاديّة لإبرام العقود العموميّة، عبر وضع دفتر شروط واستدراج عروض والتعاقد مع شركات خاصّة، تدفع لها لقاء خدماتها أموالاً قد تستدينها أو ترصدها في موازنتها»، وتالياً إن الفرق بين الشراكة والآلية العاديّة تتلخّص بما يلي:
1- استدانة الدولة المباشرة للدفع للمورد، وتبرم معه عقداً لفترة طويلة، تقسّط خلالها المبالغ المترتبة عليها. وبالتالي بدل أن تسجّل الدولة المبالغ المترتبة عليها في الدين العام، فهي تخفيه، إذ تدفعه على شكل أقساط سنويّة من الموازنة، وتخفي معه جزءاً من عجزها وقيمة الفائدة المترتبة عليها، أو يمكن للشريك الخاصّ استرداد أمواله وأرباحه من خلال تجيير إيرادات عامّة له يجبيها من المواطن.
2- التنازل عن دور الدولة في تحديد تفاصيل الحاجة التي أبرمت عقداً مع شريك خاصّ للحصول عليها، من خلال تنازلها عن وضع دفتر الشروط.
يوضح نحّاس أنه «في الحالتين (الآلية العادية أو الشراكة) من يعمل في لبنان هو القطاع الخاص، نظراً لعجز الدولة ونقص الموارد البشريّة لديها، أمّا الفرق فيكمن في إظهار هذا العبء المالي، أو التحايل لإخفائه بعقود شراكة. وتالياً إن التحجّج بعجز الدولة لإحلال القطاع الخاصّ هو عذر غير مقبول، فالقطاع الخاصّ ليس الحلّ لدولة فاشلة، خصوصاً أن هذه التلزيمات بمبالغ كبيرة ولسنوات طويلة يترتّب عنها احتكارات، كما أن التسويق لفكرة تنفيذ استثمارات مجانيّة هو خاطئ، لأن الشريك الخاصّ يدفع أموالاً ويستردها لاحقاً من الدولة مع أرباحه الخاصّة، وتالياً المفاضلة بينها وبين الصيغة العاديّة، مسألة فنية مرتبطة بكلفة التمويل والفوائد المترتبة عنه، والمردود الاقتصادي الناتج عن كلّ نمط».

المصارف هي المستفيدة

يطرح نحّاس مجموعة من المسائل الدستوريّة والإداريّة التي ينطوي عليها القانون، أهمّها «مخالفة المادة 89 من الدستور التي لا تجيز منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعيّة أو مصلحة ذات منفعة عامّة أو أي احتكار إلّا بموجب قانون وإلى زمن محدود. إخفاء حجم الدين العام والفوائد عليه. والقضاء على دور إدارة المناقصات من خلال تجيير كلّ العقود إلى المجلس الأعلى للخصخصة، بدل التعاقد مع أي مورد وفق دفتر شروط محدّد، وتحويل كلّ الصفقات إلى عقود شراكة. أمّا الهدف من كلّ ذلك فهو شفط الأموال العامّة».
ويشير نحّاس إلى أن المصارف هي من أبرز المستفيدين من هذا القانون، وهي ضغطت من أجل إقراره، بهدف «تسييل جزء من الودائع المتراكمة لديها عبر منحها لشركات القطاع الخاصّ التي ستلتزم مشاريع مع الدولة من جهة، كما وتوظيف أموالها مع القطاع الخاصّ لقاء فوائد أعلى بدلاً من توظيفها في سندات الخزينة من الجهة الأخرى»، فيما يعدّ المواطن المتضرّر الأكبر نتيجة «انعكاس هذه العقود على أسعار الخدمات التي ستقدّم، كون الفوائد على القروض الممنوحة هي أعلى ولأن هامش ربحيّة القطاع الخاصّ أكبر من هامش ربحيّة الدولة».