«بينما البخيل هو رأسمالي أصيب بالجنون، فإن الرأسمالي هو بخيل عقلاني»كارل ماركس

في الآونة الأخيرة اختلفت الآراء حول احتمال ردّ رئيس الجمهورية لقانون الضرائب، وبالتالي ردّ السلسلة فعلياً، التي تم إقرارها في المجلس النيابي. الكثيرون من كل حدب وصوب، الذين طالبوا الرئيس برد القانونين، ولا سيما الهيئات الاقتصادية ونقابات المحامين والمهندسين والأطباء مروراً بحزب الكتائب وربما أكثرية الشعب اللبناني... سيعلنون النصر إذا استجاب الرئيس لمطالبتهم؛ ولكن المنتصر الحقيقي سيكون الهيئات الاقتصادية والمصارف والرأسمال المالي.

هؤلاء هم المنتصرون لأنهم بذلك يكونون قد درأوا أهمّ تغيير في النظام الضرائبي باتجاه زيادة العبء على مداخيل الفوائد والأرباح، والذي وان كان طفيفاً، فإنه بالنسبة إلى هؤلاء يشكل خرقاً كبيراً سيكولوجياً ورمزياً يرتعبون أساساً من استكماله لاحقاً.
هنا تكمن المعارضة الحقيقية للضرائب، ولهذا أرادوا أن يشيطنوا الضرائب كلها فـ»يرمى الطفل مع ماء الغسيل» ونعود كما يُأمل الى نقطة الصفر. لكن أين حسابات البيدر من حسابات الحقل هنا؟ وهل يمكن العودة الى نقطة الصفر؟
أولا، لا بد من التأكيد مرة أخرى أن لا حلّ تقنياً لهذه المعضلة. أي إنه ليس هناك «توليفة فُضلى» للسلسلة ولسبل تمويلها عبر الضرائب (أو عدمه لأن الدولة لديها دائماً خيارات أخرى) وما علينا إلا إيجادها عبر البحث العلمي أو النمذجة الاقتصادية أو الاستعانة باستشارة «صديق» من البنك الدولي أو صندوق النقد. كلا، إن الأمر هو اقتصادي - سياسي بالدرجة الأولى، أي إن التوليفة التي سنصل اليها ما هي إلا نتاج الصراع بين الفئات والطبقات المختلفة والتي تحدد من سيربح كم ومن سيخسر كم عند نهايته. وكنا رأينا كيف أن الصراع ارتفع منسوبه مع بدأ التحركات من أجل السلسلة في عام 2011، وكيف أصبح أكثر وضوحاً منذ البدء بالحديث عن تمويل السلسلة وكيف ازداد حدة وشراسة عند وضع سلة تمويلها من الضرائب. في النهاية، أقلّه الآن، انتصر الأجراء في القطاع العام، أما أجراء وعمال وموظفو القطاع الخاص فيتحضرون للمعركة الفاصلة المقبلة حول الأجور في الاقتصاد الخاص؛ وخسر الراسماليون ولكنهم ارتعدوا أكثر من هذه المعركة المقبلة المحتملة فشن الرأسمال المالي الهجوم المضاد، منفّذاً (ربما) ما قاله بصراحة مدهشة أثرى أثرياء العالم الأميركي وارن بافيت «هناك بالتأكيد حرب طبقية وإن طبقتي طبقة الاغنياء، تنتصر»!
ثانياً، إن عودة الاقتصاد السياسي هذه هي، كما قال روبرت رايش وزير العمل الأميركي السابق، بمثابة تجلٍّ للخيارات الاجتماعية في توزيع الدخل والثروة، وهي مرتبطة أيضاً بعودة القوة الشعبية «countervailing power»، التي يمكن أن تحقق توزيعاً أكثر عدلاً. إلّا أنه في لبنان، بعد إقرار السلسلة والضرائب تم تحريض بعض الفئات، التي هي موضوعياً يجب أن تكون في عداد هذه «القوة»، وتم استعمالها من أجل تحقيق هدف الهيئات الاقتصادية. هؤلاء الذي استُعملوا لم يستطيعوا أن يروا أن سلة الضرائب غير المباشرة التي يطال عبؤها اساسا الطبقات العاملة والمتوسطة يمكن أن تكون ثمناً مقبولاً اجتماعياً من أجل إحداث الخرق هذا. فبدلاً من ذلك وقعوا تحت لعنة ماركيز كوندورسيت التي تقول إن السلطة الحقيقية تكمن لدى المظلومين وليس الظالمين، فالمظلومون بقبولهم ودفاعهم عن النظام الذي يستعبدهم يؤدون الى «بقاء إمبراطورية الأقوياء»، كما قال يانيس فاروفاكيس وزير المالية اليوناني الأسبق.
ثالثاً، إن رفض الكثيرين للضرائب يعكس أيضاً، بالاضافة الى خضوعهم لبروباغندا الهيئات الاقتصادية، الثقافة الريعية التي بُنيت في لبنان منذ عام 1992. وهذه الثقافة تُوهم الناس ان المال يُنتج المال في النظام المصرفي العجائبي، وان اكثر المال يُخلق في الخارج، وأخيراً أضيف الى اللائحة «الوهم الأعظم» وهو وهم النفط والغاز. كل هذه الاوهام كسرت في الاقتصاد، كما في العقول، العلاقة بين العمل والانتاجية والرفاه الاقتصادي، وبالتالي كسرت العلاقة بين الاقتصاد الحقيقي وبين الدولة، التي تمرّ في الدول الراسمالية المتقدمة عبر نظام الانفاق والضرائب والتي تصل الى اكثر من 40% في الاقتصاد. بل ان هناك علاقة سببية بين التقدم الاقتصادي وبين حجم الضرائب في الاقتصاد ومدى تصاعديتها. فقط في مجتمعات البداوة (nomadism) تكون الضرائب معدومة وتقترب منها الدول الريعية الخالصة، مثل بعض دول الخليج. أما لبنان فهو ليس دولة ريعية خالصة والريع فيه يتأتى ليس من الطبيعة بل من سيطرة الرأسمال المالي وتهجير المتعلمين وأصحاب المهارات الى الخارج، وبالتالي فإن هذا النمط من الريع الاصطناعي أسوأ من الريع الطبيعي، وهو مدمر للعمل والإنتاجية ولمؤسسات الدولة التي لا بد منها في اقتصاد عصري متقدم. فليعلم اللبنانيون أنهم برفضهم الضرائب يرفضون التقدم.
رابعاً، إن أحد أسس السياسة الاقتصادية اللبنانية هو ثبات سعر الصرف، من دون الأخذ بالاعتبار أي هدف اقتصادي آخر مثل التوظيف والنمو والتنمية ومحاربة الفقر وتحسين توزيع الدخل والثروة وتنافسية الاقتصاد وإنتاجيته ومستوى معيشة اللبناني المتوسط. وبالتالي ليس هناك من «بطولة» تذكر بالمحافظة على هذا الثبات، إذا كان ثمن ذلك التضحية بكل شيء. فالدول في سياساتها حول سعر الصرف لا تضعه كهدف نهائي بذاته بل هو أداة للوصول الى هدف. والأمثلة على ذلك كثيرة من الحاضر والماضي من سعر اليورو تجاه الدولار، الى خيار الانضمام إلى أو الخروج من منطقة اليورو، الى الدولار في مواجهة اليوان الصيني إلخ... فسعر الصرف سلاح للوصول الى الرفاه الاقتصادي. أما في لبنان فاستعمل سعر الصرف لتدمير الرفاه الاقتصادي. حدث ذلك عبر تدمير الاقتصاد المنتج ورفع منسوب الريعية الاقتصادية ومنع رفع الأجور واستعماله دوماً كعصا تهديدية وفي مواجهة أي عملية تغييرية اقتصادية أو اجتماعية.
إن استحقاق السلسلة والضرائب المرافقة لم يكن فقط أمراً له علاقة بإعطاء البعض حقوقهم، بل إن حجم السلسلة وما وضعته على طاولة الدولة والمجتمع من خيارات قد هزّ أسس الاقتصاد السياسي اللبناني، الذي بني على أوهام وعلى ما اعتقد البعض أنها سياسات أبدية. فطُرحت الأسئلة كلها في الوقت نفسه، وارتعد حماة النظام الريعي وبدوا وكأنهم كالبخلاء الذين يتمسكون بمخزوناتهم من الذهب فاستشرسوا دفاعاً عنها، وهم كانوا في الآونة الأخيرة احتاجوا إلى إجراءات يائسة من المصرف المركزي لحمايتها. وارتبك البعض الآخر فاستسلم لبروباغندا راسمالية أصيبت بالجنون وهي تحاول تأبيد نظامها القديم. ولكن مهما حصل وحتى ولو رد الرئيس القانونين فليس هناك من عودة الى نقطة الصفر، لأن متغيرات الاقتصاد السياسي وأزمة الاقتصاد الريعي نفسه الذي يرفض أركانه التحول الى العقلانية، لا يمكن تغييرها الآن إلا في الواقع المادي، ولعل مقولة ماركس في مقدمة نقد فلسفة الحق عند هيغل تعلمنا اليوم شيئاً: «إن سلاح النقد لا يمكن أن يستبدل النقد بالسلاح»!