«يا أخي السوري، أنت مصلوبٌ ولكن على صدري. والمسامير التي تثقب كفّيك وقدميك تخترق حجاب قلبي. وغداً، إذا ما مرّ عابر طريق بهذه الجلجلة، لن يميّز بين قطرات دمك وقطرات دمي، بل يسير في طريقه قائلاً: ههنا صُلب رجل واحد» (جبران خليل جبران ــ نصوص خارج المجموعة ــ تشرين الأول 1920).
لن يجد اللبنانيون «لبنانيّاً» أكثر من جبران. ولن يجد السوريون «سوريّاً» أكثر من ابن بشرّي الشمالية. ومع ذلك، تتمثّل شريحة من اللبنانيين والسوريين في لبنان بحفنة «متعصّبين» مدفوعي الأجر والغرضية، لمراكمة حقدٍ لن يولّد إلّا الحقد.
7 أعوام والحرب تنهش سوريا وقبلها العراق. ملايين من المهجّرين السوريين والعراقيين، حملوا صرراً من الذكريات إلى مغارب الأرض ومشارقها. مليون وأكثر من السوريين، عبروا الحدود ــ اللاحدود نازحين إلى لبنان. بعض هؤلاء لم تكن الحرب قد طالت مناطقهم بعد. لكن في لبنان، ثمة من شجّعهم وحرّضهم وأغراهم باسم «إعاشة» الأمم المتّحدة و«إقامة» و«إعادة توطين»، تماماً كما فعلت الاستخبارات التركية في شمال سوريا والاستخبارات الأردنية في جنوبها. كان المحرّض يستثمر سياسياً بالضغط على الدولة السورية والجيش. انتهى الآن الاستثمار السياسي للنازحين في سوريا، وصعد اليمين الأوروبي على أكتاف اللجوء والغرباء من بولندا إلى فرنسا إلى البلقان، واستعرت «العصبيات» المفكّكة لأوروبا. فهل حان أجل لبنان؟
والسؤال مشروع، ما دام الطرف الباقي في النظام اللبناني على عناده برفض التنسيق مع سوريا لحلّ أزمة النازحين لا يقدّم أجوبة منطقية لهذا الرفض. شرعية لنظام الرئيس بشّار الأسد؟ من قال إن الأسد ينتظر هذه الشرعية؟ تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي أوزن من «الأم الحنون» فرنسا في السياسة الدولية؟ لا قيمة مضافة لمواقف هذه الأحزاب من الدولة السورية، مع أن رفضها بحجّة الحرص على النازحين من المصير في سوريا، قِشرة أخلاقية لموقف سياسي، من دون خطّة ولا مشروع. اللهم إن كان هناك مشروع، وهو واحد، إحداث الفرز الديموغرافي الذي يتّهمون به الرئيس الأسد وحزب الله في سوريا، هنا في لبنان. حسناً، إذا كان ثمّة مشروع فرز ديموغرافي في حمص والقلمون وحلب تقوم به الدولة السورية وحزب الله، فليوقفه الرئيس سعد الحريري وأصدقاؤه، ويعيدوا النازحين إلى بيوتهم. يعرفون الطريق إلى ذلك، وليس عبر الأمم المتحدة. ألم يمتنع الوزير جبران باسيل عن استقبال بان كي مون، لأن الأخير كان يعبّر عن وجهة نظرٍ دولية تفرض على لبنان توطين النازحين السوريين؟ أم أنه لا ينقص الحريري «زعلاً» سعودياً إضافياً؟
عدا عن السفيرين والتنسيق الأمني والتنسيق بين الوزارات، يوجد كيان إداري سياسي قائم، اسمه «المجلس الأعلى اللبناني ــ السوري». إذا لم يستعملوه الآن، فمتى يفعلون؟ قد يتغيّر العالم، لكن جيرة لبنان لسوريا لن تتغيّر.
منذ أكثر من خمسة أشهر، وصفحات التواصل الاجتماعي «اللبنانية» و«السورية» التحريضية تتكاثر كالفطر السام. فضاءٌ بلا ضوابط، بلا أخلاق، يحكمه «القال» و«القيل» من «الحقائق» الموجّهة و«الأكاذيب» المنمّقة عن سوريين ولبنانيين يتبادلون الخوف والشتائم والتشفّي، بحقدٍ قائم على جهل سياسي واقتصادي واجتماعي وتاريخي وجغرافي. لا يحتاج «الأعداء» إلى خطّة لتعميق الشرخ بين اللبنانيين والسوريين، مع أنهم يدقّون الأسافين. الجهل وحده يكفي. بين اللبنانيين إرهابي وبين السوريين إرهابي. هنا وهناك صالح وطالح. لكن التعميم يقود إلى حرب أهلية لبنانية ــ سورية، لن تحصل، لأن بين الاثنين من مرّ على التاريخ والجغرافيا والأخوّة، فاكتسب حكمةً وعقلاً مُضافين إلى القوّة.
فجأة، حوّل حفنة من موتورين في «منظمات غير حكومية» مدعومين من «يو. أس. إيد» وأخواتها، على مواقع التواصل الاجتماعي، الجيش اللبناني عدوّاً لكل السوريين في لبنان. وكذلك فعل موتورون آخرون، فجأة دبّت فيهم «الحميّة اللبنانية»، وصاروا مدافعين عن الجيش، محوّلين النازحين كلّهم إلى أعداء للجيش، ورفعوا دعوةً للتضامن مع النازحين إلى مصاف «بوسطة عين الرمانة». والحقيقة أن الفرز بين السوريين في لبنان مطابقٌ للفرز بين السوريين في سوريا، مع الدولة وضدّ الدولة، ومع الإرهاب وضد الإرهاب، وهو كذلك بين اللبنانيين أيضاً.
جبران من جديد: «أخي السوري، أنت أخي لأنك مرآتي، فكلّما نظرت إلى وجهك، رأيت ذاتي بكل ما في ذاتي من العزم والضعف ومن الائتلاف والتشويش، من الهجوع واليقظة».