طرح التيار الوطني الحرّ، أمس، «ورقة اقتصاديّة» يهدف من خلالها إلى «تحريك عجلة الاقتصاد تماشياً مع وثيقة بعبدا التي أولت الوضع الاقتصادي الحيّز الأهم، وصياغة توجّهات وسياسات اقتصاديّة واجتماعيّة وتنمويّة، لتأمين النمو المستدام، والتأسيس لاقتصاد مؤنسن يرتكز على الإنتاج»، بحسب ما ورد في الورقة المعلنة.
يأتي طرح هذه الورقة عشية الانتخابات النيابيّة المُرتقبة في أيار 2018، سبق حصول مثل هذا الأمر مرتين خلال العقد السابق. أولاها في عام 2005 مع إعلان الحزب برنامجه الانتخابي، فجاءت الورقة التي أعدّها سامي نادر، حينها، متأثرة بالأفكار النيوليبراليّة حول الدولة ودورها، ودور القطاع الخاص، والخصخصة والاستثمار وفرض الضرائب غير المباشرة وإعفاء الرساميل من الضرائب. أمّا الورقة الاقتصاديّة الثانيّة، فقد طُرحت قبيل انتخابات 2009 النيابيّة، وأعدّها شارل عبدالله، حيث طغى عليها البعد الاجتماعي ومركزية دور الدولة وأهمية الزراعة والحماية الاجتماعية، بما يتناقض كلياً مع البرنامج الأوّل. إلّا أن الجامع بين البرنامجين المتناقضين، كان عدم سعي التيار إلى تنفيذهما، بحجّة أن السلطة ليست بيده، وأنه يشكّل قوة ضعيفة بالمقارنة مع القوى المُسيطرة الأخرى التي كانت تدافع عن النموذج الاقتصادي القديم القائم على تعزيز مصالح المصارف والمودعين والمضاربات العقاريّة والاحتكارات التجارية.

تيارا «التيار»

اليوم، يمكن التركيز على متغيرين أساسيين؛ الأوّل عبّر عنه رئيس الحزب، الوزير جبران باسيل، عن أن التيار هذه المرّة، وعلى عكس المرّتين السابقتين، هو قوي وفي صلب السلطة، إن من خلال وجود العماد ميشال عون على رأس الجمهوريّة مع ما يعنيه ذلك من قدرة كبيرة على التأثير، أو من خلال الحصّة الوازنة للتيار في الحكومة، وصياغته تحالفات تسمح له بجرّ القوى الأخرى إلى تسويات وتنازلات متبادلة مُمكنة، يقول باسيل إن «تحوّل هذه الورقة إلى مشروع قابل للتحقّق، من خلال الشركاء السياسيين واللبنانيين والقطاع الاقتصادي، وإبرام توافق اقتصادي يكبّر حجم الاقتصاد المحلي، ويحقّق النمو، ويخلق فرص عمل، ويدفع بالاقتصاد قدماً».

تطرح «الورقة الاقتصاديّة» تعديلات تطال الماليّة
العامّة والنظام الضريبي والسياسة النقدية



أما المتغيّر الثاني، فيمكن استنباطه أولاً مما صرّح به مسؤول اللجنة الاقتصاديّة في التيار، شربل قرداحي، بإشارته إلى أن «هذه الورقة هي الصيغة الناضجة المستمدّة من تجارب التيار على مدى 12 عاماً، ومن برامجه المطروحة كلها»، وثانياً من كون المسؤولين هذه المرّة عن وضع الورقة هما المصرفي منصور بطيش وقرداحي نفسه، فالأول كان أحد أبرز المرشحين لخلافة رياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان، وبالتالي كان يشكّل أحد الخيارات التي يتبناها الرئيس عون لإحداث تعديل في السياسات النقديّة الطاغية على النموذج الاقتصادي، كما أنه كان خلف الشعار الذي رفعه الرئيس عون في بداية عهده عندما استقبل جمعيّة المصارف، وقال أمامهم إن «الاقتصاد القائم على الإنتاج، لا الدَّين، هو الذي يؤمّن الاستقرار ويدعم الليرة اللبنانيّة»، علماً بأن هذا الشعار يختصر تفكير بطيش وينعكس بوضوح على البرنامج الجديد للحزب. أمّا شربل قرداحي، فقد كان ركناً أساسياً في الفريق الذي تصادم مع فريق ثانٍ في التيار حول سلسلة الرواتب والتعديل على النظام الضريبي المُقترح، بحيث أيّد فرض الضرائب على الريوع المصرفيّة والعقاريّة وزيادة الضريبة على أرباح شركات الأموال. وقد وضع بطيش في ذروة هذا الطرح دراسة حول الماليّة العامّة تبيّن عدم عدالة النظام الضريبي القائم، وعدم عدالة الإنفاق العامّ، في حين كتب قرداحي مقالات عدّة وشارك في مناظرات أيد فيها إجراء تعديلات جوهريّة في بنية النظام الضريبي والسياسات النقديّة... وذلك قبل أن ينتصر الفريق الآخر في التيار الذي كان يقف ضد أي تغيير أو تعديل في النموذج والسياسات.

تعديلات على النظام الاقتصادي

ظاهرياً، قد يُعدُّ هذا الطرح انتصاراً للتوجّه الإصلاحي داخل التيار، بعد نكسة التجديد لرياض سلامة، ما سينعكس حكماً على المناقشات المقبلة حول السلسلة والضرائب، كما أنه يمثّل مصالح الطبقة الوسطى التي تشكّل القاعدة الفعليّة في الحزب وتواجه أزمة كبرى نتيجة عجز النموذج الاقتصادي القديم نفسه عن تأمين مصالحها. إلا أن طرح الورقة لا يكفي للجزم، إذ لا يزال أصحاب المصالح الخاصّة داخل «التيار» يروّجون لـ«حقّهم في الاستفادة كما استفاد غيرهم»، وهو ما دفع باسيل سابقاً إلى الردّ عليهم بـ«أن وصول عون إلى بعبدا لن يكون باباً للاستفادة الماديّة للوزراء والنواب والمسؤولين في الحزب». أمّا عملياً، فتعدّ التجربة الماضية مربكة في الاستنتاج، وخصوصاً أن أصحاب المصالح الخاصّة لا يزالون يحكمون الخيارات في الحزب، وبنيته الأساسيّة ترتكز عليهم.
تطرح «الورقة الاقتصاديّة» سلسلة من التعديلات على النظام القائم، هي عبارة عن توجّهات وسياسات اقتصاديّة واجتماعيّة على المدى المتوسط، تقوم على تحديث بنية وإطار الماليّة العامّة للجم تنامي إجمالي حجم الدَّين العام الناتج، ولا سيما لجهة عجز الكهرباء وخدمة الدين العام وضعف إيرادات الخزينة، بالتوازي مع لجم العجز في الميزان التجاري، من خلال تحقيق توازن في حسابات الماليّة العامّة عبر رفع مستوى التحصيل الضريبي لزيادة إيرادات الدولة من إجمالي الناتج المحلي من 19% في عام 2015 إلى 26% في عام 2020 (فيما يبلغ المعدّل في الدول المتوسطة الدخل كما لبنان 26.8%)، خفض نسبة خدمة الدين العام لمجمل إيرادات الخزينة من 50% في عام 2016 إلى 33% في عام 2020، وكذلك خفض نسبة حجم الدين لإجمالي الناتج المحلي من 146.8% في عام 2016 إلى 136.4% في عام 2020، وتحقيق فائض أولي من 2.3% في عام 2018 إلى 5.6% في عام 2020، وصولاً إلى تخفيض نسبة العجز المالي من 7% في عام 2018 إلى 3.7% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2020.

ثبات صرف العملة الوطنيّة

كل ذلك، مع الاستمرار بسياسة ثبات صرف العملة الوطنيّة، لكن مع الحدّ من اضطرار المصرف المركزي إلى اتخاذ إجراءات نقديّة مكلفة لتأمين ذلك، وتصويب وضع الماليّة العامّة بما يلجم التضخّم ويحفّز النمو الاقتصادي عبر تشجيع وتمويل الاستثمار الحقيقي، إضافة إلى خفض معدّلات الفوائد المدينة على الليرة والدولار، بما يسهم في تحفيز الإقراض للقطاعات المنتجة، وصولاً إلى فرض تعديلات على السياسة الضريبيّة من خلال إعادة النظر بهيكليّة النظام القائم عبر رفع حجم الضرائب المباشرة، إذ لا تتخطّى حالياً الـ 25% من مجمل مداخيل الخزينة (تصل إلى 61% في دول منطقة اليورو) ولا تمثّل أكثر من 5% من حجم إجمالي الناتج المحلي (25% في دولة منطقة اليورو)، مقابل تخفيض حجم الضرائب غير المباشرة من مجمل إيرادات الخزينة، وخصوصاً أنها تطال كلّ الفئات الاقتصاديّة بمعزل عن مداخيلها. إضافة إلى إخضاع الإنفاق الحكومي للرقابة المسبقة واللاحقة وتحديث أصول المناقصات، على أن يترافق كلّ ذلك مع تطوير بيئة الأعمال وتشجيع الاستثمارات وتحفيزها، وتشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والقروض الصغيرة، وتطبيق اللامركزيّة والحكومة الإلكترونيّة، إضافة إلى تحديث وتفعيل البنى التحتيّة وتطوير شبكة المواصلات وإطلاق مشروعي لينور وأليسار، وتوسيع مفهوم الحماية الاجتماعيّة عبر إقرار قوانين ضمان الشيخوخة والتغطية الصحيّة الشاملة والإيجار التملكي، وتطوير قانون العمل والمدارس الرسميّة...