فتَح النازحون أبواب حديقة الصنائع. افترشوا أرضها. ستفيض بهم سريعاً. رجال ونساء وأطفال، بينهم عجَزة، هناك في العراء. لم تصل الخيم بعد. ستصل لاحقاً. ستُشَاهد امرأة مُسنّة، في ذروة غضبها، تصرخ بأحدهم ليعطيها «بطّانيّة» أخرى. نحن في الصيف، ليس موسم دراسة، ومع ذلك لن تفتح بعض المدارس أبوابها أمام النازحين.
بعضها فَتَح، وبعضها فُتِح عنوة، على أيدي شبّان هالهم وجع كبارهم، خوف صغارهم، تأكلهم محاولة إذلالهم. بعض المدارس ظلّت عصيّة على الفتح. اللبنانيّون يُحبّون بعضهم بعضاً، طبعاً، جدّاً جدّاً! أبنية قديمة، مهجورة، مهدّدة بالسقوط، فتَح النازحون أبوابها وسكنوها. المكان المنزوح عنه لا يبعد إلا بضعة أميال عن المكان المنزوح إليه. مِن الضاحية الجنوبيّة لبيروت إلى بيروت. إلى العاصمة. إلى بيروت «الغربيّة» تحديداً. أما تلك «الشرقيّة» فلن يُجازِف نازح بالتوجّه إليها أصلاً. يُمكنه أن يذهب إلى هناك، إن شاء، شرط أن يكون صاحب جيب ممتلئ. عندها يُمكنه إيجاد شقّة بالإيجار، بصعوبة، مع شرط إضافي (ضمناً): أن يكون صاحب مَظهَر، وربّما لسان، لا يشي بأنّه مِن «الآخرين». هذا أسلَم وأضمن. إنّها مغامرة. إنّه إرث الحرب القديمة. هكذا كانت روح هذه البلاد قبل 11 عاماً. إنّها حرب تموز. القصف الإسرائيلي الذي يَطال كلّ مَن لديه مشكلة مع إسرائيل. مشكلة حقيقيّة، فعليّة، على شكل مقاومة.
ما كان النازحون ليخرجوا مِن منازلهم لولا أنّهم رأوا الأشلاء تختلط بالركام. لم تعد المسألة خياراً. في اليوم الثاني مِن أيّام الحرب (13 تموز 2006 ـــــ مثل اليوم تحديداً) قصفت الطائرات الإسرائيلية منزلاً في قرية الدوير الجنوبيّة. عائلة مِن 12 فرداً أبيدت. الأب والأم وأولادهما العشرة. أصغرهم كانت صفاء ابنة الشهور الستّة. تلك كانت عائلة عادل عكّاش. عائلة لم يبقَ مِنها يتيم واحد. ومع ذلك، وبعد طوفان المجازر، كان النازحون، في الساعة التي حُدّدت لوقف العمليّات الحربيّة، صباحاً، قد عادوا إلى منازلهم، أو ما بقي منها. مَن لم يجد منزله نصَبَ خيمة قرب الرُكام.
في ذروة تلك الحرب، ونزيف الدم، كان «وزير الدفاع» اللبناني (آنذاك) إلياس المرّ يجتمع بالسفير الأميركي. الأخير كان قلقاً مِن اتساع رقعة انطلاق صواريخ حزب الله. سيُطمئِنه المرّ باستهزاء، قائلاً: «لن يتمكّن حزب الله مِن إطلاق صاروخ مِن سوليدير، لديّ الكثير مِن الجنود هناك». هذا ممّا جاء في وثائق «ويكيليكس». المرّ نفسه الذي فاخر أمام السفير الأميركي أنّه، في أيّام الحرب، منع وصول شاحنة محمّلة بالصواريخ إلى حزب الله، وأنّه احتجزها وأرسلها إلى وزارة الدفاع. في هذه كان صادقاً. لقد حصل هذا فعلاً. ظنّ أنّه بذلك سيَربَح، مع الإسرائيلي والأميركي، تلك الحرب (بالمناسبة، أين أصبح المرّ هذا تبع الإنتربول؟).
في تلك الأيّام، وهي كأنّها أمس لمَن عاشها كحياة أو موت، كانت ربطة الخبز تُباع بأضعاف سعرها للنازحين اللبنانيين في مناطق اللبنانيين «الآخرين». كذلك قارورة الغاز. الماء أيضاً. كلّ شيء. ربّما لم يحصل هذا في كلّ منطقة، لكنّه حصل، قطعاً، في مناطق كثيرة. مَن نزحوا إلى «جبل لبنان» يَعرفون هذا جيّداً. وليد جنبلاط يعرف هذا أيضاً. كلّ الذين جلسوا مع وزيرة الخارجيّة الأميركيّة آنذاك، كوندوليزا رايس، يعرفون هذا. أولئك الوزراء والنواب والشخصيّات، الذين كانوا، وبصدق، خائفين مِن مآلات الحرب. كانوا، تحديداً، بحسب النصّ الحرفي: «خائفين من أن يؤدّي النزاع الحالي إلى جعل حزب الله في وضعيّة أقوى في لبنان مما كان عليه في البداية». وتضيف الوثيقة الأميركيّة أنّ تلك الزمرة دعمت فكرة مواصلة القصف الإسرائيلي لأسبوع أو اثنين «إذا كان ذلك كفيلاً بإضعاف قوة حزب الله على الأرض» (كان مِن الحاضرين أمين الجميّل وجورج عدوان وبطرس حرب). لم يفت هؤلاء أن يخبروا رايس أنّهم يؤمنون بالسنيورة (فؤاد) ويدعمونه في موقعه كرئيس حكومة. حصل ذلك الاجتماع في عزّ أيّام الحرب. ليس سرّاً يُكشف للمرّة الأولى. بات مِن المعلوم، إنّما يحتاج إلى التذكير به، أقلّه في كلّ ذكرى سنويّة، ليظلّ معلوماً. هكذا كانت تلك الجماعة اللبنانيّة تختلف في السياسة مع الجماعات اللبنانيّة أخرى. كانت تسعى لأن تظلّ الطائرات الإسرائيليّة تسحق عظام الأطفال، تدمّر المنازل، تحرق الأرض بمن عليها. هؤلاء لا يزالون بيننا، كزعماء. كوزراء ونواب وأصحاب نفوذ. هذا هو لبنان... هذه العبارة القاتلة، اللعينة، الأكثر فتكاً بالروح مِن أيّ حرب.