تنتهي الحروب وتتوقف المعارك، ويستمر الأبرياء بدفع الثمن لذنب لم يرتكبوه. سبع وستون عائلة معرضة لأن تُهجّر، للمرة الثانية، من بيوت التجأت إليها في «مشروع القبة السكني» في طرابلس، عام 2008، بسبب جملة من الدعاوى القضائية ومطالبات بالإخلاء مع غرامة.
بعض هذه العائلات جاءت من منطقتي جبل محسن والتبانة، مع عائلات أخرى بلغت أكثر من مئة عائلة، انتقلت إلى الشقق الشاغرة في المشروع المعروف بـ«مشروع الحريري»، إثر اندلاع اشتباكات المحاور عام 2008، بعضهم تمكنوا من العودة إلى مساكنهم بعد الاستقرار الأمني، والبعض الآخر تعثرت عودتهم لأسباب عدة، فمنهم من تعرض للتهديد والوعيد لمنع عودته، وأكثرهم لم تعد مساكنهم متاحة للسكن بسبب قصفها أو حرقها أو حتى التصرف بها بيعاً أو إيجاراً من قبل المالك، كما حدث مع زكريا رجب، أحد سكان المشروع، وهو من سكان التبانة سابقاً، على خطوط التماس.
يستذكر رجب كيف اضطر هو وعائلته المكونة من زوجته وبناته الثلاث إلى النوم في السيارة أياماً طويلة قبل أن يتجهوا إلى المشروع لوجود شقق فارغة فيه، ويستدرك: «صحيح أن المشروع لم يكن آمناً تماماً، إلا أنه كان أقل خطراً من المناطق الملتهبة التي كنا نسكنها، وأستر من الشارع، وعند رغبتنا بالعودة إلى منزلنا اكتشفنا أن المالك استرده واستولى على التعويضات».
قصص كثيرة مشابهة تصل إلى حد التطابق أحياناً، لا تختلف عن بعضها سوى بتفاصيل معاناة البقاء على قيد الحياة خلال أوقات الاشتباكات، التي لم يكن يعلم أحد متى تتجدد ومتى تتوقف، حتى وإن كانت على المقلب الآخر من خط التماس، كقصة ماجدة خانات من جبل محسن. قالت: «كان بيتي في منطقة الكواع، وكان بناءً قديماً وآيلاً إلى السقوط. كنا نضطر أنا وأطفالي الستة وزوجي المريض للنوم في مداخل البنايات، وإلى دخول الحمام زحفاً، فانتقلنا إلى المشروع لنحتمي بإحدى الشقق الشاغرة، وعند عودتنا إلى شقتنا وجدناها قد بيعت بغيابنا!».
أكثر من 130 دعوى قضائية مقامة ضد العائلات الباقية في المشروع، وضد آخرين مجهولين، بناءً على محاضر الدرك بين عامي 2008 – 2009 بتهم الكسر والخلع والاعتداء على الأملاك العامة والإقامة بملك الغير بدون مسوّغ شرعي. في عام 2011 اتخذ المدعي العام وائل الحسن قراراً بإحالتها جميعاً إلى المحكمة الجزائية، ووزعت على أربعة قضاة، ثم ما لبثت ان جُمِّدت في عامي 2012 – 2013 بسبب «الوضع الاستثنائي» في طرابلس، وفي المنطقة المعنية على وجه التحديد. ولكن حالياً تم تحريك الملفات القضائية، وهناك تهديد بصدور الأحكام بالإخلاء مع الغرامة، ما يهدد بإلقائهم في الشارع في ظل عدم قدرة الكثير منهم على شراء أو إيجار شقق تؤويهم في مناطق أخرى، لارتفاع أسعارها مقارنة بأسعار شقق المشروع. هذا بالإضافة إلى مشاكل عدة بسبب بيع الشقق، ما وضع الشاري بمواجهة مع شاغلي الشقق، ويضطر أحياناً، بواسطة سماسرة، إلى إرضاء «المحتلين» بمبلغ يتراوح بين 5 - 7 آلاف دولار مقابل الإخلاء واستئجار شقة في مكان آخر.

أكثر من 130
دعوى قضائية مقامة ضد العائلات الباقية في المشروع


تؤكد ماجدة خانات «وجود مافيات تبرز عقوداً غير صحيحة، بعضها صيغت بطريقة ما، وبعضها نُظِّمَت عند كاتب عدل أو محام، وهذا لا يجعلها نظامية ولا يكسب مبرزيها الملكية لأن تطويب هذه العقارات لا يتم إلا من خلال صندوق المهجرين».
أما المحامي صالح الأيوبي فيؤكد أن «الصندوق نفسه يبيع لآخرين بدلاً من أن يتورط معهم، مطالباً ببيع الشقق لشاغليها، انطلاقاً من وضع مماثل لصندوق المهجرين إبان انتهاء الحرب الأهلية، بدلاً من بيعها لأشخاص قد تكون ظروفهم أريح من هؤلاء «المعترين» الذين شُردوا بالحرب وسيُشردون بالسلم، وهم في غالبيتهم رفضوا تدخلات السياسيين لأنهم سبب تهجيرهم». مطالباً كلاً من مجلس الوزراء ومصرف لبنان والهيئة العليا للإغاثة، كل وفق صلاحياته، بأن يضعوا أياديهم على هذا الملف لإنهائه قانوناً.
الجدير بالذكر أن الأيوبي هو المستشار القانوني لحملة «تحت السقف» التي أطلقتها هذه العائلات أخيراً بهدف التوصل إلى حل قانوني يراعي ظروفهم ليبقوا تحت أسقف بيوتهم وتحت سقف القانون، كما أعلنوا.
ثمة حقلة مفقودة بين صندوق المهجرين والعائلات أصحاب المشكلة، رغم رغبة الطرفين بإيجاد حلول. ففي اتصال لـ«الأخبار» مع رئيس صندوق المهجرين العميد نقولا الهبر، أوضح أن الدعاوى رُفعت في ظل الإدارة السابقة، أما الإدارة الحالية فقد جَمَّدت أي تدبير إداري بحقهم لإتاحة المجال للبحث في الحلول الممكنة، كما نفى ممارسة أي ضغوط عليهم ورمى الكرة في ملعبهم لعدم التواصل الجدي مع إدارة الصندوق سوى مرة وحيدة منذ عام، وأبدى استعداد الصندوق لتمليك الشقق لشاغليها إن تقدموا بطلبات للشراء واستوفوا الشروط، مع مراعاة تقديم أصحاب الحقوق على غيرهم ممن هدمت الدولة بيوتهم، إبان تنفيذ المشروع، تقيداً بالتزامها معهم. وأكد أن لا شقق تُباع من جهة الصندوق دون التأكد من خلوها من الشاغلين.
اللافت أن العديد من شقق المشروع تضررت خلال المعارك القريبة منها ولم تحظ بالترميم أسوة بمناطق التبانة والبقار حتى الآن. وعن ذلك، قال الهبر «نحن بانتظار الهيئة العليا للإغاثة المعنية بالأمر لتأمين التمويل اللازم».




نبذة عن المشروع

تم إنشاء «مشروع القبة السكني» لإيواء المهجرين جراء الحرب الأهلية، وقد استملكت الدولة العقارات المتضررة، وخيّرت ملاكها بين الحصول على بدل مالي أو تملك شقق في المشروع بعد إنجازه، مع دفع الفرق بالتقسيط بحسب تقدير كل عقار. أما البيع لغير أصحاب الحقوق فيبلغ حالياً 100 مليون ليرة مقسطة على 20 سنة، بدون دفعة أولى. وقد أنجز المشروع عام 2005 ويضم 778 وحدة سكنية تتوزع على 65 عمارة، بمساحات تتراوح بين 90 و120 متراً مربعاً، بيع منها 648 شقة لأصحاب الحقوق، وبقي 130 شقة خالية، وبعضها يشغلها الجيش. كما يضم المشروع ثلاث مدارس للمراحل الدراسية المختلفة ومستوصفاً ومخفراً ومركزاً للدفاع المدني، إضافة إلى كنيسة مار مخايل وجامع الخضر.