ما الذي حصل في العقدين الماضيين؟ وهل يمكن تفسيره من دون الوقوع في فخ المفاضلة بين مختلف المجموعات الحاكمة تحت مُسمى "الدولة" والمتحاكمة في ما بينها؟! لفهم ما حصل، نستعين بمفهوم "الطرد - توحش وتعقيدات الاقتصاد العالمي" للباحثة ساسكيا ساسن، الصادر في عام 2014، والذي يشرح ميكانيزمات إقصاء الناس عن المركز السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وتُعرَف ساسن بنتاجها المعرفي المتخصص بآليات عمل الاقتصاد المعولم وتضخم اقتصاد الخدمات والريوع، في حين يقتصر دور أجهزة الحوكمة المحليّة (الحكومات الوطنية) أو ما فوق الوطنية (المؤسسات الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية...الخ) على إضفاء المشروعية وتسهيل آليات عمل هذه المراكز/ الشركات. في هذا السياق، يأتي مفهوم "الطرد المتوحش" كمحاولة لفهم التحولات التي دفعت نحو مزيد من اللاعدالة على المستويات العالمية والمحلية؛ وهو يرتكز على أربعة ميكانيزمات تنفيذية يجري عبرها استبعاد الناس وطردها بشكل عنيف متوحش الى خارج المركز.

المقاولات

يطرح الميكانيزم الأول تقلص مساحة الاقتصاد النظامي الحقيقي في طليعة القوة الطاردة هذه، في حين يحل تضخّم دور الأدوات المالية في مرتبة ثانية، حيث تسيطر الخدمات على العملية الإنتاجية وتُدفع المدن المركزية نحو إعادة تشكيل بنيتها الإنتاجية بما يتماشى مع وظيفتها في الاقتصاد العالمي.

تحول الباحثون عن عمل
الى باحثين عن خدمات
يقدمونها لمن هم أعلى منهم في السُلّم الاجتماعي
طبع هذا الخطاب السياسات الاقتصادية لبيروت ما بعد الطائف، والتي قامت بشكل مركزي على ضخ كميات هائلة من النقد في قطاعين خدماتيين أساسيين؛ الأول هو قطاع المقاولات الذي اختزل إعادة الاعمار بمجموعة هائلة من العقارات ذات الطبيعة الخدماتية الاستثمارية، والتي شكلت بنية فوقية لما نظّر لها بأنها بيروت كالمقر العام الإقليمي لمجموعة من كبريات الشركات العالمية. كانت الاستراتيجية الرهان أن تستقر هذه الشركات في بيروت فيعتاش أبناء المدينة عبر الخدمات التي يقدمونها لها بما يسهل من عملها ويحفز إنتاجيتها. ترافق هذا الأمر مع تنفيذ بعض مشاريع البنى التحتية التي تخدم هذا الرهان، كالمطار وشبكة الطرقات التي أبرز ما يعبر عنها هو ذاك "الكوريدور" الكبير الممتد من مطار بيروت الدولي الى وسط العاصمة، أو ما يسمى عرفاً بالسوليدير، والمفرّغ من أي شكل من أشكال الحياة الاجتماعية، قافزاً فوق عشرات الأحياء الفقيرة التي تتوزع على جانبيه أو تحت جسوره.

المصارف

أما القطاع الثاني فاختصر بثلة من البنوك، التي تتشارك ملكيتها أوليغارشية ما قبل الحرب وسياسيّو ما بعد الطائف، جرى منحها امتياز إقراض "الدولة" طوال الثلاثين سنة الماضية، فاستثمرت ودائع الناس في نظام استخراج أرباح مالية مهولة قامت "الدولة"، نفسها، بدور فاعل في عملية تضخيمها وإيصالها الى ما هي عليه اليوم. فطُرد الناس من دائرة الإنتاج، وطُرد أبناؤهم مهاجرين لا يعودون إلا عبر تحويلاتهم المالية، وطُرد الاقتصاد الحقيقي بشكل كلي ليستبدل بعقيدة اقتصادية خدماتية مطلقة.

الاستحواذ والمضاربات

في السياق نفسه، يأتي ميكانيزم الطرد الثالث الذي تتحدث عنه "ساسن"، والذي يقوم على الاستحواذ على الأراضي بشكل واسع وتحويلها الى أدوات استثمارية لاستخراج الأرباح، بغض النظر عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه العملية. وهذا ما حصل حرفياً في التسعينيات حين استحوذت شركة سوليدير الخاصة على قلب المدينة النابض عبر تواطؤ معلوم من "الدولة"، في عملية يشوبها الكثير من الملاحظات القانونية والدستورية، فحوّلت ملكيات فردية خاصة الى أدوات مالية دولية في سابقة لم تشهدها حتى أحلك لحظات الحرب الأهلية، حيث بقيت الملكية الفردية قدس أقداس النظام الليبرالي اللبناني. استتبع هذا الأمر بالتوسع في الاستحواذ على الأراضي الزراعية لأغراض المضاربات العقارية والتوسع العمراني لاستيعاب المطرودين من مركز العاصمة. وها هو اليوم يُستكمل بإقرار قانون إيجارات يسهم في طرد عشرات آلاف الأسر من مساكنهم ويحرر مساحات شاسعة من العقارات لتدخل في سوق المضاربات المالية. هذا ما توصفّه "ساسن" بأنه عملية طرد عنيفة للسكان الأصليين، بعيداً عن موئلهم بما يخدم توسيع أرباح من يسيطر على المركز الحَضَري ويعيد وجهة استخدام الأراضي لأهداف استثمارية بحتة.

خصخصة الحيّز البيئي

أما ميكانيزم الطرد الرابع والأخير فهو يشرح كيفية احتلال الحيّز البيئي، عبر الخصخصة، واستغلاله بطريقة عدمية، أي بما يوسّع استخراج الأرباح على حساب الاستدامة البيئية، فيطرد عناصر الحياة منه ويحوله الى أمكنة ميتة بما للكلمة من معنى. هنا يمكن وبسهولة ملاحظة أداء المجموعات الحاكمة في إدارة الشاطئ اللبناني وتحويله عبر كل هذه السنوات الى بيئة غير صالحة للحياة في الكثير من النقاط بين نهر أبو علي شمالاً والناقورة جنوباً من جهة، وبين مطمر النفايات في الناعمة وقبله النورماندي وبرج حمود وحالياً مع الكوستابرافا. بين هذين المثلين تبقى الكسارات والمرامل وشفط الرمول الشاطئية شواهد، واستغلالها في عملية التطوير العقاري شواهد إضافية على طرد المجموعات الحاكمة لكل مؤشرات الحياة والبيئة الصحية في سبيل توسيع أرباحها. وما زلنا نشهد أحدث فصوله في منطقتي الرملة البيضاء والدالية.

سلم العلاقات الخدمية

في النصف الثاني من التسعينيات، اكتشفت المجموعات الحاكمة أن الموقع الجيواستراتيجي لبيروت أصبح معوّقاً أساسياً لوظيفتها الإقليمية والعالمية بعد فشل محادثات السلام. ولم تأتِ الشركات، وبالتالي لم تنتزع بيروت مكانها الوظيفي في الاقتصاد العالمي، فكان لا بد من الارتداد الداخلي وإعادة تشكيل الميزة التفاضلية للمدينة التي اختزلت البلد. تضخمت الخدمات المتدنية المردودية (المطاعم، خدمات التوصيل، الخدمات الشخصية اليومية، المجمعات التجارية... إلخ) وتحول الباحثون عن عمل الى باحثين عن خدمات يمكنهم تقديمها لتحقيق رفاهية ما لمن هم أعلى منهم في السُلّم الاجتماعي. هكذا أصبح شاب التوصيل "الدليفري" يقدم خدمة توصيل الأكل لموظف البنك الذي، بدوره، يقدم خدمة لمديره الذي يقدم خدمة لعميل ما عبر إدارة حساباته المالية ومساعدته لانتزاع مزيد من الأرباح من خلال استغلال نظام الخدمات الذي يقوم على تشغيل هشّ لفئات الفقراء والمهمشين أمثال شاب "الدليفري"، وهكذا دواليك وبشكل تصاعدي في سلم العلاقات الخدمية التي تطبع المدينة اليوم وعبرها بلداً بأكمله.

عملية طرد عنيفة للسكان الأصليين بعيداً عن موئلهم بما يخدم توسيع الأرباح

يكفي أن نمرّ أمام تقاطع الحمرا أو ساحة الشهداء بين الساعة الخامسة والسادسة مساءً لنرى قوافل المطرودين يعودون الى أماكن سكنهم بالفانات بعد أن انتهت خدماتهم لهذا اليوم واستعداداً ليوم جديد. في السياق نفسه طُرد الناس من ممتلكاتهم أو من أحيائهم وجرى تأديبهم وتدجينهم عبر دين عام يثقل ماليتهم العامة ويستنزف معظم ضرائبهم المقتطعة، وطردت الحياة من شواطئ بيروت وجبالها، ولم يبقَ منها إلا بعض الجزر التي تقدم خدمات ترفيهية للنخب الحاكمة ومن يلتحق بها عبر العلاقات الخدمية السالفة الذكر.
هنا يمكننا فهم كيف تصبح المحافظة على البلاط الخارجي لجدار أحد فنادق وسط المدينة حاجة وجودية للمجموعات الحاكمة، وتأتي مهمة المحافظة عليها كأولوية على المحافظة على الناس، لكونها، ببساطة، هي آخر ما تبقى من الوظيفة الاقتصادية لبيروت ما بعد الطائف. وتصبح الإنارة المسائية الضخمة، لمناسبة الأعياد، لأحد الشوارع الخالية من أي مبنى سكني، والذي يبعد أقل من خمس دقائق بالسيارة عن مناطق مكتظة سكانياً وتعيش ظلاماً دامساً، دليلاً مباشراً على لاعدالة النظام تجاه المطرودين من نمو الكيلومتر المربع الواحد.
هل هناك حقد طبقي؟ بالتأكيد هناك، فماذا سيخلق نظام الطرد المتوحش، السالف الذكر، عند الناس غير ذلك؟!