نستهجن كل الاستهجان أن يعمد الزميل إبراهيم الأمين إلى كتابة مقال تفوح منه رائحة الكراهية والعداء والطائفية إلى حد تخيير المسيحيين بين «الهجرة أو الذمية»، كما يفتقد الحد الأدنى من الموضوعية في مقاربة الأحداث التي يتعامل معها بذاتية وتحريف للوقائع التاريخية.
فما يتجاهله الزميل الأمين عمداً يتمثل بالمناخ الوطني العام الذي يظلّل ويواكب أي قضية، حيث إن المطالبة الإسلامية عشية الحرب الأهلية بالمشاركة كانت تعكس وجهة نظر إسلامية عامة بمعزل عن شخصيات إسلامية كانت ضد هذا التوجه، وذلك تماماً على غرار الجو المسيحي العام الذي شعر وعن حق بعد العام 1990 بالمظلومية والإحباط نتيجة حل حزب «القوات اللبنانية» واعتقال رئيسه سمير جعجع وضرب كوادره ونفي العماد ميشال عون وملاحقة مناصريه. وإن دلّ ذاك الاستهداف على شيء، فعلى الإمعان في ضرب توجه مسيحي محدّد يجسّد التطلعات الوطنية للشريحة المسيحية الأوسع بمعزل عن شخصيات مسيحية كانت ضد هذا التوجه أو مستفيدة من هذا الواقع، كما نحيل الزميل الأمين إلى مقاله بالذات تحت عنوان رسالة إلى الرئيس بري ودعوته كمناضل ضد الحرمان إلى تفهم الحرمان المسيحي.
ولعل أكثر ما يثير الاستغراب لدى الزميل الأمين وغيره تحولهم إلى مدافعين عن العائلات التقليدية المسيحية والتركيز على المستقلين، فيما لم يسأل الأمين نفسه، مثلاً، عن مصير بيت الخليل والأسعد والزين وحمادة وبيضون وشمس الدين وغيرهم الكثير من البيوتات الشيعية التي لعبت أدواراً لبنانية وطنية بامتياز، وصولاً إلى هاشم السلمان الذي تمت تصفيته في وضح النهار ومن دون حسيب ولا رقيب.
ونوافق الزميل الأمين بأن صمود الجنرال عون وتياره شكل عاملاً أساسياً بانتخابه رئيساً، ولكن تحالفه مع «حزب الله» لم يوصله إلى أي مكان باستثناء استمرار الفراغ لأكثر من سنتين ونصف سنة، حيث إن الحزب اكتفى بدعم عون من دون القيام بأي جهد، اعتقاداً منه أن الأمور ستقف عند هذا الحد، فيستمر الفراغ الذي يجسد المصلحة الاستراتيجية للحزب، ويكفي التذكير بما قاله النائب سليمان فرنجية: «إن حزب الله كان يعوّل على انسحاب عون بعد ترشيح الحريري لي، لكن دعم جعجع له جعله متشبثاً بترشحه، والله ما بقا يخليه ينسحب»، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه: أي كلام هو الأصدق: كلام فرنجية أم «حزب الله»؟
فلولا الدينامية الرئاسية التي أطلقها جعجع بترشيحه عون، ومن ثم تبني الحريري لهذا الترشيح، لكان لبنان ما زال في دائرة الفراغ نفسها، فيما «حزب الله» وجد نفسه أمام الحائط المسدود في ظل خيارين أحلاهما مر: خسارة التحالف مع عون أو انتخابه، فاختار على مضض الخيار الثاني، وبالتالي تأييد الحزب لعون كان لفظياً، فيما تأييد «القوات» لعون هو تأييد فعلي.
ولا بد أن نسأل الأمين كيف خلص إلى أن خطاب «القوات» مليء بالحقد الدفين، فأين تكلمت «القوات» بحقد؟ وهل من وقائع يستطيع إبرازها؟ وما الأدبيات التي استند إليها لاتهامها بالحقد؟ ولكن الحقد الدفين يا أستاذ الأمين يكمن لدى الطرف الذي يضع كل ثقله ليمنع على «القوات» حقيبة سيادية، أو يحاول فك تحالفها مع «التيار الوطني الحر»، أو وضع فيتو على دورها الوطني.
وكل ما تقدم يبقى في السياق المقبول، إلا أن الكلام عن إعادة تأهيل «القوات» فنتمنى أن يكون زلة لسان غير مقصودة، لأن «القوات» التي قدمت آلاف الشهداء على مذبح القضية اللبنانية ليست بحاجة لشهادة من أحد، ومن ثم «القوات» التي كل رهانها على الجيش اللبناني لحماية السيادة الوطنية وبناء الدولة لا تقبل دروساً من جهات وشخصيات وقوى وزملاء شغلها الشاغل تشريع جيوش رديفة تحت مسميات مقاومة وسرايا مقاومة واستعراضات عسكرية.
ونسأل الزميل الأمين لماذا لا يعترض على فكرة استحواذ «حزب الله» على الحصة الشيعية قبل الكلام عن استحواذ هذا الطرف المسيحي أو ذاك؟ فهل من تمثيل شيعي ضد إرادة «حزب الله»؟ وهل الحزب يختصر التمثيل الشيعي؟ بالتأكيد لا، وبالتالي عندما ينجح الزميل الأمين بمهمته شيعياً نعده بأننا سنعمل على تعميمها وطنياً.
ونسأل الزميل الأمين أيضاً: أين غدرت «القوات» بالجالسين معها؟ وهل «القوات» من اغتال مهدي عامل وحسين مروة وخليل نعوس وميشال واكد وسهيل طويلة وغيرهم الكثير ممن تمت تصفيتهم من قيادات وكوادر الحزب الشيوعي اللبناني بجرم قتالهم إسرائيل؟ فالإناء ينضح أيها الزميل بما فيه.
ونتمنى على الزميل الأمين في أوقات فراغه طبعاً أن يتعرف إلى التاريخ المسيحي في لبنان الذي يبدو أنه يجهله تماماً، لأنه لو لم يكن كذلك، لما خيّرهم بين الذمية والهجرة، حيث إن مقاومتهم ليست مستجدة، بل ضاربة في جذور التاريخ المسيحي وأعماقه على امتداد ١٥٠٠ سنة في مواجهة مستمرة ضد الذمية والهجرة، ودفاعاً عن حريتهم وكرامتهم وحضورهم.
وكنا اعتقدنا لوهلة أن لغة التهديد والوعيد انتهت إلى غير رجعة، وهذه اللغة عدا عن كونها مرفوضة رفضاً باتاً شكلاً ومضموناً ولا تؤدي إلى أي نتيجة مع أي جهة ربطاً بالتجارب التاريخية في لبنان، فإنّ من المؤسف أن طرفاً أساسياً كـ»حزب الله» يوجه أو يسمح أو يغض النظر عن كلام تهديدي للمسيحيين من منبر إعلامي محسوب عليه بشكل كامل ومن رئيس تحرير في صلب مطبخه الإعلامي.
ومن المؤسف أن الذمية التي عانت منها بيئة «حزب الله» على غرار البيئة المسيحية تهدد المسيحيين بالذمية أو بترحيلهم عن لبنان، فيما كان الاعتقاد أن المعاناة المشتركة تستدعي النضال من أجل منع العودة إلى سياسات كانت نتائجها تدميرية وكارثية على لبنان واللبنانيين، وذلك من خلال قيام الدولة وتحقيق المساواة وتجسيد الشراكة. وكان الاعتقاد أن الخلاف مع «حزب الله» من طبيعة عقائدية وسياسية لا طائفية بمحاولة تخيير المسيحيين بين الخضوع لشروطه أو الهجرة والذمية، علماً أن الخضوع هو الذمية بنفسها، وكلام الزميل الأمين لا يمكن فهمه إلا في سياق الرسائل الموجهة من الحزب إلى المسيحيين.
ونتمنى أخيراً على الزميل الأمين مقارعة الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة، والإقلاع عن لغة التخوين والتهديد والترهيب، خصوصاً أننا كنا قد استبشرنا خيراً بكتاباته في المرحلة الأخيرة.
شارل جبور
رئيس جهاز الإعلام والتواصل في «القوات اللبنانية