حصلت «الأخبار» على نموذجين من أوامر تحصيل صادرة لعشرات المشاركين في احتجاجات ما عُرف باسم «الحراك المدني» في الصيف الماضي.
هذان الأمران بالتحصيل هما مجرّد نموذجين عن عدد غير معروف من أوامر التحصيل الصادرة، وهما موقّعان من المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص. الأول رقمه 13378 صادر بتاريخ 14/7/2016، تطلب فيه المديريّة من 13 شخصاً هم علي بري، محمد عمر، ابراهيم عباس، علي عبدالله، حسن دولاني، محمد حيدر، حسين طه، حسن عبدالله، عباس علوية، ابراهيم مرتضى، جهاد غادر، علي محمود، علي عساف، دفع مبلغ 3 ملايين و817 ألف ليرة لبنانيّة، نفقات معالجة العناصر المصابين وبدل مدّة تعطيلهم عن العمل وثمن الأعتدة المتضرّرة في خلال ما وصفتها بأعمال الشعب الحاصلة قرب السرايا الحكومية في وسط العاصمة بتاريخ 25/8/2015. والثاني رقمه 13753 صادر بتاريخ 17/11/2016 تطلب فيه من تسعة أشخاص هم خضر أبو حمدة، خلدون جابر، وارف سليمان، حسين ابراهيم، فايز ياسين، منح حلاوي، بيار الحشّاش، محمد الترك، و محمود موسى دفع 39 مليون و610 آلاف ليرة لبنانيّة، نفقات معالجة وبدل مدّة تعطيل العناصر المصابين عن العمل وثمن الأعتدة المتضرّرة لفضّ التظاهرة التي أقيمت في وسط العاصمة قرب فندق لوغراي بتاريخ 8/10/2015.
الشخص الوحيد المبلّغ بأمر التحصيل رقم 13753 حتى اليوم، هو خضر أبو حمدة، الذي يُحاكم أمام المحكمة العسكريّة بتهمّة «عدم فضّ تظاهرة». يقول أبو حمدة لـ«الأخبار» أنه وقّع بلاغ إيصال التحصيل منذ أيام في مخفر بلدته (كفرملكي – الجنوب)، من دون أن يسمح له بأخذ نسخة عن الملف، وهو عبارة عن مئات الصفحات التي تتضمّن وصفاً لما سُمي شغبا حاصلا في 8 تشرين الأّول 2015، وجداول بفواتير الأموال التي تكبّدتها الدولة خلالها، وتشمل أضراراً لاحقة بعتاد أميري، واستعمال قنابل مسيّلة للدموع والرصاص المطاطيّ، ومدّة تعطيل عناصر قوى الأمن المصابين عن العمل، وتكسير عصي وخوذ وغيرها، وذلك بقيمة 39 مليون ليرة. ومدوّنة عليه أسماء بعض المكلّفين بالدفع بـ«قلم رصاص». مشيراً إلى أن محاكمته ما زالت جارية أمام القضاء العسكري ولم يُصدر حكماً فيها بعد».

من هم هؤلاء المغرّمون؟

الأسماء المذكورة في البلاغين، واردٌ بعضها في القرار الظنيّ الصادر عن المحكمة العسكريّة بحقّ الموقوفين خلال تظاهرات عام 2015، وبعضٌ آخر غير موقوف، أو مُنعت عنه المحاكمة، أو أوقف في ثكنه الحلو قبل بدء أعمال الشغب، بحسب ما يشير المحامي المُتابع للملف فاروق المغربي. وينتمي هؤلاء إلى مجموعات «الحراك المدني»، التي نزلت إلى الشارع في صيف العام الماضي اعتراضاً على الأداء الحكومي بعدما عجزت تلك السلطة لأشهر عن رفع النفايات عن الطرقات، وما زالت عاجزة حتى اليوم، قبل أن يتحوّل اعتراضهم الى نقمة شعبيّة على الفساد المستشري في أجهزة ومؤسّسات الدولة، قوبلت بقمع انتهجه النظام الحاكم بكلّ أجهزته الرسميّة وغير الرسميّة، وأدى الى تكوين ملفين في المحكمة العسكريّة للمعتقلين في تلك التظاهرات.
يطلب احد أوامر التحصيل دفع 39 مليون ليرة ثمن القنابل والرصاص المطاطي



الأوّل هو ملف 29 آب ويشمل الموقوفين في التظاهرات التي امتدّت من 22 إلى 29 آب ولم يصدر قرار ظنيّ فيه بعد. وملف 8 تشرين الذي صدر قراره الظنيّ وقضى بالإدعاء على كلّ من رامي محفوظ، وبيار الحشّاش، وفايز ساسين، وحسين ابراهيم، ووارف سليمان بموجب المواد 346 و348 و381 و733 من قانون العقوبات لتشكيلهم جماعات شغب، ومقاومة القوى الأمنيّة بالعنف والشدّة ورشقهم بالحجارة، وتخريب ممتلكات الغير، وعدم تفرّقهم إلّا بعد استعمال القوة بحقهم، وكلّ من يوسف الجردي، وعلاء فقيه، وزين نصرالدين، وحسام غولي، ومحمد الترك، ومحمد موسى، خضر أبو حمد، سينتيا سليمان، ليال سبلاني، وضياء هوشر بموجب المواد 346 و348 من قانون العقوبات لتشكيلهم مجموعات شغب خلال الحراك، وعدم تفرّقهم إلّا بعد استعمال القوّة. ومنع المحاكمة عن كلّ من فاطمة حطيط، ومايا مالكاني، وكارين هلال، وإياد الشيخ حسين، وخلدون جابر، ومنح حلاوي، وبلال علاوه، وسامر مازح، وحسن قطيش.

قرار غير قانوني

استندت المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي إلى أحكام المادّة 45 من قانون المحاسبة العموميّة، لطلب دفع هذه المبالغ في مصلحة الخزينة في وزارة الماليّة، على أن يكون للمُطالبين حقّ الاعتراض على أمر التحصيل خلال شهرين من تاريخ التبليغ، دون أن يوقف الاعتراض التنفيذ، إلّا إذا قرّرت المحكمة ذلك.
تحدّد المادة 45 كيفيّة تحصيل ديون الدولة ووارداتها الأخرى، وهي أعطت لرؤساء الإدارات إصدار أوامر تحصيل بالديون والواردات التي لم تعيّن القوانين النافذة طرق تصفيتها وتحصيلها وإجراء الملاحقة بشأنها، وفقاً للأصول المتبعة في تحصيل الضرائب المباشرة والرسوم المُماثلة لها.
قانوناً فإن تحصيل حقوق ماليّة من مواطنين عن أضرار مرتكبّة منهم تستوجب تحقيقاً وكشفاً عن الأضرار وقراراً قضائياً، كما أن الاعتداء على عسكريين أو عتاد عسكري هو جناية يعاقب عليها القانون بموجب قرار قضائي يصدر عن المحكمة العسكريّة، إلّا أن وزارة العدل تحيل الموضوع إلى وزارة الداخليّة والبلديات، باعتبار أن لقوى الأمن الداخلي، بموجب نظامها، أن تغرّم من يخالف القانون.
تشير مصادر المديريّة إلى أن «قرارات مماثلة طبيعيّة وروتينيّة، تصدر بعد أي حادثة تترتب عنها أضرار لاحقة بعسكريين أو بعتادهم العسكري، وهي اوامر تحصيل قابلة للاعتراض أمام القضاء الجزائي أو في شعبة الشؤون الإداريّة التابعة للمديريّة، فتسقط عندها بموجب حكم قضائي أو تحصّل لمصلحة الخزينة العامّة»، وتتابع المصادر أن «هذه الاوامر أشبه بضبط المخالفة الصادر عن القوى الأمنيّة، وتالياً لا يحتاج لحكم قضائي، بل يستند إلى التحقيقات التي أجريت في الفصائل والصور والفيديوهات التي بحوزة القوى الأمنيّة».

مخالفة أو دين للدولة!

بحسب المحامي فاروق المغربي، فإن إصدار أوامر تحصيل ماليّة يعني «اعتبار الأشخاص مديونين للإدارة». لكن ماذا عن قانونيّة قرار كهذا؟ يردّ: «لا يوجد ما يؤكّد قانونيّة قرار كهذا، لاستناده إلى معلومات استخباريّة، ولغياب أي تحقيق يثبت أنهم مديونون للإدارة، أو إن كانوا هم السبب في الضرر الحاصل في العتاد، وهو مخالف للمادة 733 التي يُحاكم البعض بموجبها وتفرض صدور قرار التغريم عن المحكمة». فيما يشير المحامي واصف حركة من مجموعة «بدنا نحاسب» إلى أن «أي قرار قضائي يُفترض صدوره بناءً على تحقيق، وهو ما لم يحصل في هذه الحالة، بحيث لم يستدعَ أي من المكلفين لأخذ إفادته والتحقيق معه، وتبيان العتاد والأملاك المتضرّرة. وهو ما يعطينا حقّ الاعتراض وإبراز تقارير طبيّة بحوزتنا تبيّن الضرر الجسدي اللاحق بالمتظاهرين نتيجة القمع المُمارس ضدهم».
يقول المحامي المغربي إننا «أمام سابقة تترتب عليها إشكاليّة قانونيّة حول المرجع المُفترض الإعتراض أمامه، إن كان القاضي المنفرد المالي لكون أمر التحصيل وصّفهم بمكلّفين بديون تجاه الدولة اللبنانيّة، أم أمام القاضي المنفرد الجزائي لكونه صادرا عن وزارة الداخليّة باعتباره ضبط مخالفة تجري عليه أصول التحصيل المعروفة. في الحالتين نحن أمام بدل مادي يدفع للدولة عن القمع الذي مارسته على متظاهرين».

كمّ الأفواه باسم القانون

ما يحصل يندرج ضمن إطار القمع المستمرّ المُمارس من النظام، بدأ مع العنف المُفرط الذي استعمل في فضّ التظاهرات، واستكمل بتخوين كلّ المشاركين فيها ووصفهم بخرّيجي السفارات، وردّ الحركة الاعتراضيّة على النفايات إلى مخطّطات خارجيّة مدفوعة لتقويض الأمن والاستقرار الداخلي، إضافة إلى تجاوز أصول المحاكمات خلال التوقيف، وصولاً إلى فرض الغرامات.
وقد تكون هذه الغرامات أشبه بأسلوب استباقي لكمّ الأفواه وترهيب الناس ومنعهم من التعبير عن رأيهم. وهو ما يعتبره الأمين العام للمركز اللبناني لحقوق الإنسان وديع الأسمر «تجريم لكلّ العمل النقابي، وتقييد حريّة الناس بالمطالبة بحقوقهم، وقضاء على حقّ التظاهر المفترض بالدولة أن تحميه، وخصوصاً أنه مكفول بمجموعة من الحريات المدنيّة والسياسيّة الدستورية، أبرزها التعبير عن الرأي والتجمّع وإنشاء الجمعيّات والعمل في الشأن العام، المكفولة في مقدّمة الدستور وفي شرعة حقوق الإنسان الدوليّة التي وقّعها لبنان منذ السبعينات، والتزم احترام بنودها».

سابقة في اساليب القمع

ما يحصل هو سابقة أن تصدر قوى الأمن الداخلي أمر تحصيل مالي يحتاج إلى حكم قضائي بغرامات، و«تولّفه» بصورة غير قانونيّة على أنه ضبط مخالفة، مفرّطة بذلك بالمال العامّ أي مال كلّ المواطنين، إذ إنها بذلك تجبي بدل طبابة العسكريين وثمن عتادهم مرّتين، مرّة من الضرائب المفروضة على كافة المواطنين لمصلحة الخزينة العامّة، ومرّة من أوامر التحصيل التي تصدرها، على حدّ وصف المحامي وديع عقل، الذي يرى أن «لا شيء يبرّر تحميل المسؤوليّة لأشخاص اعتباطياً، بحجّة ضبط الأمن والحدّ من أعمال الشغب، خصوصاً أنه صادر عن جهة (قوى الأمن) تُعدّ طرفاً في النزاع القضائي القائم في المحكمة، التي يفترض بها وحدها أن تحدّد المسؤوليات والأضرار.
«المكلفون» بعضهم غير موقوف أو مُنعت عنه المحاكمة أو أوقف قبل بدء «الشغب»


كما وتعتبر الأقوى لامتلاكها كل أعتدة القمع وسلطة ممارسة العنف على المتظاهرين وهم الجهة الأضعف، المُعترضة في تحرك مطلبي سياسي، ناتج عن تقصير الحكومة في معالجة أزمة النفايات، وهي القضية الأساسيّة التي لم يُحاسب القضاء المسؤولين عنها، أي الحكومة وسوكلين ووزير البيئة، ولم يرتّب تعويضات للمواطنين عن الأضرار الصحيّة اللاحقة بهم، مع ما يحمله ذلك من تفسيرات طبقيّة، تحوّلت بنتيجتها السلطتان القضائيّة والأمنية إلى حماية النظام والسلطة السياسيّة وقمع المواطن الضعيف».
يرى المحامي عقل أن «الوضع يحمل كيديّة في التعاطي مع فئة من المواطنين المعترضين على عمل الحكومة، ولا يطاول من نزلوا بالسكاكين لفضّ الاعتصام، مع ما يشكّله ذلك من خطر على الأمن الاجتماعي، كما أنه يحدّ من حريّة التظاهر والتعبير عن الرأي المصونة في الدستور اللبناني، وكأن الهدف القيام بعمليّة استباقيّة لكمّ الأفواه، والضغط لمنع الاعتراض تحت وطأة الغرامات الماليّة. فيصبح بذلك التهديد والقمع مُمارسين بقوة السلاح والغرامة الماليّة والاعتقال الاعتباطي».