ينطلق مفهوم «رائد الأعمال» من فكرة أنه تكمن في كل فرد القدرة على تسخير سلسلة من القدرات والمواهب المتوافرة لديه بطريقة مبتكرة، لخلق منتج أو خدمة ما، يقدمها للسوق. يموّله مستثمرون، يصبحون شريكاً لرائد الأعمال وشركته الناشئة، أو عبر قروض يسحبها على مسؤوليته.
وتقوم الشركات الناشئة عملياً على هوامش الاقتصاد العالمي، تحاول استغلال الخبرات في مجالات التكنولوجية والبرمجيات، لانتاج خدمات وسلع، غالباً ما تكون وظيفتها مكملة، أو مطوّرة لخدمة أو سلعة موجودة من الأساس. وذلك بالضبط، إضافةً على اعتمادها على أموال الشركات الكبرى والمصارف لتمويلها، ما يجعلها هامشية.

%7 من الشركات الناشئة تستمر في النمو من حيث التوظيف


يرى مفكرون، منهم السوسيولوجي الإيطالي موريزيو لازاراتو، والفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك، وغيرهما، أن شخصية "رائد الأعمال" الموجودة اليوم، هي أحد العوارض المنطقية للعالم الذي أنتجته السياسات النيوليبرالية; عالم تضمحل فيه فرص العمل، والضمانات الصحية والاجتماعية، وتتزايد فيه الهوة بين أصحاب الثروات وباقي البشر، ويعيش فيه معظم الناس في خطر مستمر: الإفلاس، التشرّد، المرض دون القدرة على تأمين العلاج، عواقب الفشل في تسديد الديون (ذلك غير خطر الحروب والمجاعات الخ)، ويحلمون بالاستقلالية، والرفاهية، وأن يتمكنوا يوماً من ممارسة ما يحبون; هذا كلّه يصحبه انعدام الأمل.
يأتي في هذه البيئات رواد الأعمال ليطرحوا أنفسهم على أنهم أحرار من قيود الاقتصاد وصنّاع مستقبل أفضل، يتصارعون مع الشركات التقليدية، والحكومات الجاهلة لمعنى الريادة والقامعة للابداع، ومع مخاوف الناس من المخاطرة. يرسمون لأنفسهم صورة الثائرين على المنظومة، المؤمنين بالقدرة الابداعية لكل فرد في تقديم شيء ما للعالم و"تحقيق السعادة".
يظهر تاريخ مفهوم «الذات الرائدة»، بحسب الباحث في جامعة غلاسكو، مايكل بيترز، أنها علاقة تروّج لها النيوليبرالية، حيث يؤسس الفرد لنفسه عبر أساليب الاستثمار الذاتي. ويعتبر لازاراتو، أن ذلك يحدث في إطار عملية انتاج «الفرد المدين»، حيث تنقل أعباء الاقتصاد، وتأمين متطلبات الحياة، لا سيما الرفاهية، وفرص العمل والنجاح إلخ، في ظل الرأسمالية الحديثة، من الحكومة إلى الفرد. يصبح الفرد «مسؤولاً أمام رأس المال لتحقيق النجاح». وتتمثّل مسؤوليته بما هو مدين لها لإعطائه ما لا يستحق من دعم عن طريق القروض. والهدف من ذلك على المستوى النظري، انتاج اقتصاد رفاه مخصخص، يقوم كل فرد فيه بتأمين خدمة أو سلعة ليملأ فراغا ما في السوق أو يخلق مجالاً جديداً، وحاجات جديدة، دون الاضطرار للتنافس «السلبي» مع أحد.
ولذلك، ليس من المستغرب أن تطرح «مجتمعات» الشركات الناشئة المتخصصة في مجالات التكنولوجية العالية التقنية والمعلومات والبرمجيات، كنموذج اقتصادي للدول الناشئة الأكثر تضرراً من العولمة النيوليبرالية، كما يحدث في دول أفريقية، وشرق آسيا. وقد يدخل هذا النموذج في إطار آلية استغلال من الشركات العالمية لمهارات وأفكار سكان تلك الدول، إذ تظهر الدراسات أنه يكون في غالب الأحيان مصير الشركات الناشئة التي تنتج هذه السلع، الاندماج بشركات عالمية تشتري الشركة، وفي بعض الأحيان تحوّلها إلى مركز أبحاث تابع لها (إذا تأمنت في الدولة البنى المطلوبة لإجراء الأبحاث العلمية). وهذا ما تشهده اليوم، على سبيل المثال، إسرائيل، التي تعد نموذج نجاح لهذا النوع من الاقتصاد (مع أنه قائم على تعاون بين القطاع الخاص والعام، الذي يقوم بمعظم ما يتطلبه من المخاطرة)، إذ تتحول معظم الشركات الناشئة، بعد زمن معيّن إلى مراكز أبحاث لشركات كبرى.
ذلك نتيجة إحدى المشاكل الاساسية التي يعانيها هذا المجال، وهي أن أغلب منتجاته من السلع غير المعمّرة، أو الخدمات والتطبيقات والبرامج التي تعمل في أطر منتجات أخرى كمكمّلات، أو إضافات (سكايب، تطبيقات الهواتف الذكية، خدمات مصرفية على الانترنت، أجهزة بحث، تأمين هيكل إداري لشركات تقدم خدمات معينة، الخ)، ولذلك بينما قد تجني عائدات كبيرة خلال فترات معيّنة، إلّا أنه بعد فترة، يصبح من غير المنطقي أن تبقى الشركة المنتجة مستقلة، لأنها تصبح فعلياً جزءا أساسيا من المنتج أو الخدمة التي تنتجها الشركات الكبرى. والأمثلة على ذلك كثيرة، مثلاً شراء شركة فايسبوك لإنستاغرام، وسنابتشات، وواتسآب. كما شراء شركة غوغل ليوتيوب، وأندرويد، وحتى شركة موتورولا.

لا يحقق سوى %35 من الشركات نمو أرباح على مدى الثلاث سنوات الأولى

وجدت دراسة صادرة عن جامعة «نيو وايلز» الأسترالية، درست ما سمتها ظاهرة «الخلق والتدمير» في قطاع الشركات الناشئة، أن هذا القطاع يشهد تحديا كبيرا في تأمين وظائف مستدامة، إذ تظهر الدراسة أنه من خلال دراسة الشركات الناشئة في 10 دول على مدى 5 سنوات، تبين أن نسبة «تدمير الوظائف» ترتفع من 31% خلال العام الثالث، إلى 65% في العام الخامس. واعتبرت أن النمو المستمر الذي حققته شركات كـ«غوغل» و «إيباي»، وغيرهما في مراحلها الأولى هو الاستثناء للقاعدة، أكثر مما هو القاعدة ذاتها. وقد أصبحت في الآونة الأخيرة مقولة أن 9 من أصل 10 شركات ناشئة تفشل أمراً مبتذلاً في أوساط "سيليكون فالي"، إلى درجة أنه يعاد تدويرها لتصبح أمراً إيجابياً! الفشل خطوة أساسية نحو النجاح، ولكن عندما تكون نسبة الفشل 90%، يصبح الأمر بنيوياً. خاصةً أنه لا يحقق سوى 35% من الشركات نمو أرباح على مدى الثلاث سنوات الأولى، ولا تستمر إلّا حوالى 7% منها في النمو من حيث التوظيف. هذا يعني أولاً أن فرص الشركات الناشئة بالتحول إلى شركات مستقلة كبيرة ضئيلة جداً، وكذلك فاعليتها على مستوى الاقتصاد الكلّي لدولة، حيث لا يمكن الاعتماد عليها لدعم سوق العمل وإنعاش الاقتصاد بشكل مستدام. ونجد أنه في الدول التي تعد نماذج لنجاح هذا الاقتصاد، تتحمل الحكومة أعباء المخاطر وتؤمّن العوامل المناسبة من بنى تحتية ومراكز أبحاث ودعم وتسهيلات مالية، وتعليم، ولذلك تنتفي فكرة أن المسألة تعود لرائد الأعمال وقدراته الفردية، كما يروّج "مجتمع روّاد الأعمال".
في جميع الأحوال يجد معظم روّاد الأعمال الذين يملكون أفكاراً قابلة للنجاح، أنفسهم بين واقعين، الأول أنه قد يكون بإمكانهم جني أرباح قد تكون كبيرة من مشاريعهم لفترة معيّنة. والثاني، أنهم يصبحون بشكل من الأشكال مساحات تجارب للشركات الكبرى، ما يعيدنا إلى فكرة لازاراتو أن الفرد تحت النيوليرالية "مسؤول أمام رأس المال"، لأنه في حال نجاح مشاريعهم، تقوم الشركات بشرائها، أي تمتص هذا النجاح وتعطيهم مقابل. وإذا فشلت، تقع المسؤولية على الشركات الناشئة وحدها، خاصةً في حال كانت ممولة عن طريق القروض لا المستثمرين.




خلق الوهم في لبنان

على صعيد لبناني، وفي إطار محاولات مصرف لبنان للترويج لما هو معروف باسم "اقتصاد المعرفة"، بوصفه سبيلا لصناعة الوظائف للبنانيين، تظهر الدراسات أن ذلك يمكن أن يحقق هدفه لفترة معيّنة (تحت شروط غير متوافرة حالياً لدينا: التعليم المناسب، البنى التحتية والعلمية المناسبة التي كان على المصرف تمويل انشائها قبل أن يخصص 400 مليون دولار للروّاد ذاتهم)، كما تُظهر الدراسات ان هذه الوظائف لن تكون مستدامة. إضافةً إلى ذلك، بغياب البنى المطلوبة للبحوث العلمية في البلاد، سيكون مصيرهذه الشركات الناشئة وما تنتجه أن تباع إلى شركات عالمية دون أن يعود ذلك بفائدة حقيقية على اقتصاد البلد.