لِمَ لا تُقرّر بلديّة بيروت اقتلاع أشجار حرش بيروت، كلّها بلا استثناء، وبيعها في سوق دولي؟ أو فلترمها في البحر، إنّه لن يغصّ بها، أو فلتحرقها. المُهم أن تتخلّص منها. أن لا يعود هناك شيء اسمه الحرش. أمّا بالنسبة إلى الأرض، فهذه، كما العادة، ليس أسهل مِن تلزيمها واستثمارها وتشييد أبنية تجاريّة فوقها.
هكذا يرتاح الجميع. هكذا تنتهي هذه «المسخرة» المُستمرة منذ سنوات. هكذا يكون «الكبار» قد أكلوا حصّتهم، الأبديّة، أمّا «الصغار» فسيتعايشون مع فكرة تبخّر الحرش. لقد تعايشوا سابقاً مع ما هو أدهى وأمَرّ. أن تجعلك السُلطة، أيّ سُلطة، تيأس مِن شيء (مطلب) فهذه مِن أدوات عملها. إنّها لعبة قديمة، مكشوفة، إلا أنّها تعمل. لا تزال تعمل. الحرش مقفل، منذ أشهر، وقد خفت الحديث عنه.
«نقترح إغلاق الحرج أمام الزوّار، على الأقل، في فترة المعالجة التي يُمكن أن تمتد حتّى نهاية شهر حزيران». هكذا جاء في الخبر. كان ذلك قبل نحو 4 أشهر. أتى حزيران، ثمّ رحل، ولم يُعاد فتح الحرش. لماذا؟ المواطنون غير محترمين كفاية حتّى تُصدر البلديّة بياناً، بعد انتهاء المدّة، لتخبرهم فيه عن سبب استمرار الإغلاق. هل مِن تفسير آخر؟ قبل سنوات، كنّا نَلمح على بعض جدران العاصمة العبارة الآتية: «ليش حرش بيروت مسكّر؟». كلّ ما كنّا نعرفه هو أنّ الدخول ممنوع علينا، نحن العاديين، وليس لنا إلا أن نقف خارجه ونُشاهد «الأجانب» (الأوروبيين والأميركيين) يُمارسون رياضة المشي السريع داخله. كان هذا مسموحاً. كانوا يُدخلون كلابهم معهم. الكلاب تدخل أمّا المواطن فلا. ظلّ الأمر كذلك مِن انتهاء الحرب الأهليّة إلى ما قبل 4 سنوات تقريباً، حيث سُمِح للبنانيين الدخول، شرط أن تكون أعمارهم أكثر مِن 35 عاماً! لِمَ هذا العمر تحديداً؟ لا أحد يعلم. يعني 34 عاماً و6 أشهر ممنوع! في مرحلة لاحقة، ولسببٍ غير مفهوم، عُدّل القرار وأصبح مسموحاً الدخول لمَن زاد عمرهم على 30 عاماً. تفرق كثيراً! كان يُردّد أنّ على الزائر الحصول على إذن مِن البلديّة، وتردّد مرّة أنّ موافقة محافظ بيروت لازمة، وهكذا، إجراءات ومقابلات ومواقف كفيلة بأن تجعلك تكره تلك الحروف الثلاثة أساساً: ح / ر / ش. الأطفال الذين يزيد عمرهم على 10 أعوام كان ممنوعاً عليهم الدخول مع ذويهم. إن كان عمر طفلك 9 سنوات فيُمكنك أن تصطحبه معك، أمّا ابنك الآخر، إن كان عمره 10 سنوات ونيّف، فهذا دعه في المنزل.

مضى فصل الربيع بلا حرش وسيمضي الصيف، على الأرجح، بلا حرش

لاحقاً، قبل نحو سنتين، صدر «القرار الكبير» مِن المُحافظ بالسماح للمواطنين، كلّ المواطنين، بالدخول إلى الحرش... في يوم واحد فقط. يوم السبت تحديداً. بعد ذلك أضيف يوم الأحد أيضاً. بعد نحو سنة، صدر «القرار الأكبر» بالسماح لجميع المواطنين الدخول طيلة أيّام الأسبوع. لكن مهلاً، فباستثناء نهاية الأسبوع، تكون الزيارات مسموحة مِن الساعة 7 صباحاً حتّى 2 ظهراً. ماذا يفعل مَن ينتهي دوام عمله عند الثانية أو الرابعة مِن بعد الظهر؟ الحرش خلال تلك الأيّام يكون للعاطلين مِن العمل. ظلّ الأمر كذلك إلى أن أقفل ذاك المكان، تماماً، قبل نحو 4 أشهر. مضى فصل الربيع بلا حرش. مضت أعياد بلا حرش. سيمضي الصيف، على الأرجح، بلا حرش. ما سلف ينفع أن يوصف برحلة تسوّل شجرة. تسوّل بقعة خضراء. مساحة عامة. حديقة. متنفّس. مُطالبات واعتصامات وحراكات ولافتات وندوات مِن أجل ذلك الحرش، كلّها، مع هذا الإذلال، تبدو أقرب إلى التسوّل. مواطنون يعيشون في مدينة تختنق يتسوّلون حديقة.
مستشفى ميداني بُني، أو يُبنى، في ذلك الحرش. كلّ التحرّكات التي نُظّمت ضدّه (ضدّ قضم المساحة العامة) لم تفلح في إيقافه. خلال فترة السماح بالدخول، سمعنا عن كلاب، من حين إلى آخر، تُهاجم الزوّار وتنبح عليهم. الحرّاس عند المدخل، هذه الأيّام، يُجيبون مَن يَسألهم عن موعد إعادة الافتتاح: «مطولة خيي مطولة». تزعجهم كثرة الأسئلة. يستغربون كثرة السائلين أخيراً. فاتهم أنّ مَن فوقهم قالوا سابقاً إن معالجة الأشجار يُمكن أن تمتد حتى نهاية حزيران. أصبحنا في تمّوز.
قبل نحو تسعة قرون، ورد ذكر حرش بيروت باسم «الغيضة» في كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» للإدريسي، في سياق حديثه عن بيروت، فقال: «ولها غيضة أشجار الصنوبر، مما يلي جنوبها، تتصل إلى جبل لبنان وتكسير هذه الغيضة اثنا عشر ميلاً في مثلها، وشرب أهلها مِن الآبار». لقد كان الحرش غابة هائلة. الآن نتسّول مِنه فيء شجرة.