تعميم مصرف لبنان الذي يتيح للمصارف تمديد آجال القروض المدعومة في القطاعات الإنتاجية إلى 19 سنة لا يصنّف مؤشراً إيجابياً. بل ينبئ بأن مخاطر محليّة وإقليمية واسعة تتهدّد قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة التي «حقنها» مصرف لبنان بثلاث جرعات «تمديد» في السنوات الثلاث الماضية.
وهي حقن تعالج النتائج ولا تؤثر على أصل المشكلة، وبالتالي لا تعفي الشركات من احتمال عودة عوارض «المرض»، أو حتى ظهور عوارض جديدة. وأصل المشكلة يكمن في السياسة القائمة على «خنق» الاقتصاد عبر تركيز موارد لبنان نحو أهداف نقدية، تقتضي بدورها تقنين الإقراض والتسليف وتقليص تنافسية الشركات... «تمنين القطاع الخاص بقروض مدعومة لا معنى له في ظل خنق الاقتصاد»، يقول الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي.
وأصدر مصرف لبنان في 6 حزيران الماضي التعميم 465 الذي يجري تعديلات على القرار الأساسي 7743 المتعلق بدعم الفوائد المدينة على التسليفات الممنوحة للقطاعات الصناعية أو السياحية أو الزراعية. وفي التعديل أنه «يمكن تمديد مهلة تسديد القروض الممنوحة للعملاء التي تمت الموافقة على استفادتها من دعم الدولة للفوائد المدينة بحيث لا تتجاوز مدّة القرض بعد التمديد 19 سنة، ومن دون أيّ تغيير في كلفة الدعم المقدرة لمدّة القرض الأساسية».

بين عام 2013 و2017
مُدّدت مهلة تسديد القروض للقطاعات الإنتاجية ثلاث مرات


وهذا هو التمديد الثالث من نوعه بعدما كانت مدّة القرض الأصلية تتراوح بين 5 وسبع سنوات كحدّ أقصى. ففي 7 أيلول 2013 أصدر «المركزي» تعميماً يتيح تمديد مهلة تسديد هذه القروض بحيث لا تتجاوز مدّة القرض الأساسية 10 سنوات. وأصدر تعميماً مماثلاً عام 2015 يتيح تمديد مهلة تمديد القرض إلى 12 سنة حدّاً أقصى، ثم جاء التعميم 465 الذي يفسح في المجال أمام التمديد لمدّة 19 عاماً.
التمديد ليس وحده الأمر اللافت، بل حجم القروض القائمة حالياً في هذه المحفظة والذي يبلغ 7 مليارات دولار وفق إحصاءات جمعية المصارف. ويشير التقرير السنوي للجمعية إلى أن إجمالي التسليفات المدعومة الفوائد الموافق عليها، ارتفع بنسبة 8.1% عام 2016 مقارنة مع نموّ بنسبة 8.3% عام 2015. وشكّلت حصّة قطاع الصناعة 59.1%، وحصّة قطاع السياحة 29.4%، وحصّة قطاع الزراعة 11.5%.
إذاً، المشكلة تشمل قروضاً لثلاثة قطاعات بقيمة 7 مليارات دولار لديها صعوبات في تسديد أقساط قروضها منذ ما قبل 2013. فهل يعني ذلك أن هذه المشكلة ظرفية وناتجة عن تداعيات الأزمة السورية، أم أنها مشكلة بنيوية ناتجة عن سوء الخيارات الاقتصادية المتبعة منذ عقود، قبل أن تعرّيها الأزمة السورية أكثر وتكشف ضعف مناعتها وقابليتها للتداعي بشكل درامي تزامناً مع تطوّر الأحداث الأمنية والسياسية في المنطقة؟
في الواقع، لا يمكن التعاطي مع مسألة كهذه من خلال قراءة ردود الفعل تجاه التطورات السياسية والأمنية المحلية والإقليمية. القراءة الموضوعية تستلزم قياس مستوى المناعة التي يتمتع بها الاقتصاد تجاه أحداث من هذا النوع. وقد تكون هناك تأثيرات موضعية وظرفية للمشكلة السورية في المنطقة، إنما لا يمكن تجاهل حقيقة ضعف المناعة في القطاعات الإنتاجية اللبنانية. فبحسب رئيس تجمّع رجال الأعمال فؤاد زمكحل، لا يمكن إخفاء حقيقة أن «لدينا عوامل ضعف بنيوية تستوجب إعادة هيكلة الاقتصاد وتطوير طبيعته التقليدية. لكننا رأينا محاولات مصرف لبنان في سياق دعم اقتصاد المعرفة وإنشاء شركات جديدة خلافاً لوجهات النظر التي تشير إلى أن المشكلة أساسها السياسة النقدية». وهذا التفسير لا يلغي أيضاً أن اقتصاد لبنان «تراجع منذ 2011، أي منذ انفجار السورية، وظهرت مؤشرات عديدة أبرزها تراجع الاستثمارات الخارجية إلى النصف وانخفاض التحويلات بنسبة 20% تراكمياً. اقتصاد لبنان ازداد صعوبة كل يوم خلال السنوات الخمس الماضية». وبالتالي، بحسب زمكحل، فإن الإجراء الذي أخذه مصرف لبنان «يبرهن أن الاقتصاد متعب، وهو كناية عن ضخ أوكسيجين في شرايين الشركات المتوسطة والصغيرة التي يفوق دينها المصرفي 55 مليار دولار، أي ما يساوي 110% من الناتج المحلي. وهذه النسبة تعني أن السيولة ضعيفة في السوق، وأن هدف تعميم مصرف لبنان هو تخفيف الضغط على الشركات التي يواجه القسم الأكبر منها صعوبات في التسديد».
في المقابل، يلفت يشوعي إلى أن بنية النظام الاقتصادي في لبنان كانت قائمة خلال العقود الأخيرة على قاعدة الانفتاح من دون أيّ اعتبار للكلفة المترتبة على ذلك، فضلاً عن استغلال موارد لبنان المالية لتلبية حاجات غير اقتصادية. ويشير إلى أن «التخطيط للسياسة الاقتصادية ليس وظيفة مصرف لبنان. لكن ما يحصل اليوم هو أن هذه السياسة تنبثق من السياسة النقدية التي يتولاها المصرف. فقد عرّينا القطاعات الاقتصادية وقلصنا قدرتها التنافسية وفتحنا الحدود والأجواء وخفضنا الرسوم الجمركية وألغينا عنها الحماية، ما أدّى إلى إقفال أو تصغير أحجام المصانع، قبل أن نعود اليوم إلى محاولة إنقاذ ما تبقى منها من خلال التمويل، وتمنينها بتمديد مهلة تسديد القروض».
وفي رأي يشوعي، فإن خطوات من قبيل تمديد آجال استحقاقات القروض «بلا معنى»، وهي عبارة عن «حلول ترقيعية» و«مسكّنات»، و«لا تشبه شيئاً مما يتعلق بالأسس السليمة لاقتصاد الشركات». وما يحصل اليوم في القطاعات الإنتاجية أنها «أصبحت أسيرة للسياسات النقدية التي يختنق بها الاقتصاد، فيما يجب خفض أكلاف الاقتصاد، وهذا يتطلب تحرير سعر الصرف أو زيادة مرونته بالحدّ الأدنى، لأن السياسة النقدية الحالية قائمة على استقطاب المال وتقتيره بيد مصرف لبنان لحماية سعر الصرف، رغم أن الاقتصاد يحتاج إلى خطوات مختلفة جذرياً».
إذاً، المشكلة البنيوية كما يراها الجميع، هي واقع لا يمكن الهروب منه وإن كان هناك اختلاف حول تصنيفها بدقّة. لكن ما لا خلاف عليه هو أن الأزمة السورية كان لها دور كبير خلال السنوات الست الأخيرة في الكشف أكثر عن هذا الخلل. فبحسب زمكحل، لبنان «مربوط أمنياً واقتصادياً وسياسياً بسوريا حيث تدور حرب واسعة منذ 2011، ثم برزت مشكلة الأزمة العربية وانخفاض أسعار النفط، فيما تعرّض لبنان للمقاطعة ثلاث مرات، بخلفيات أمنية وسياسية ومالية، فضلاً عن أن الاقتصاد العالمي ليس بخير، فيما لبنان هو الحلقة الضعيفة».