قبل عيد الفطر، عرض وفد من المجلس الوطني للبحوث العلمية على الرئيس نبيه برّي مجموعة خرائط عن الحدود البحرية للبنان. وقدّم شرحاً عن المنطقة المتنازع عليها مع العدو الإسرائيلي، والملف الذي أرسل الى الأمم المتحدة. شكّل ذلك مناسبة لإعادة هذا الملف الى الواجهة من جديد، حين قال رئيس المجلس إن لقاء سيُعقد مع المنسقة الخاصة للأمم المتحدة سيغريد كاغ لمناقشته.
ما إن انتهت فرصة العيد، حتى كشف برّي أن «الأمم المتحدة أعلنت استعدادها لرعاية ترسيم الحدود البحرية». فهل هذه إشارة لطمأنة شركات النفط والغاز التي تسعى الى التنقيب في هذه المنطقة؟ وهل أبلغت إسرائيل استعدادها لترسيم الحدود؟ ما هي المشكلة التي لا تزال عالقة؟
كان لبنان قد طلب رسمياً قبل عامين من الأمم المتحدة أن تلعب دوراً في ترسيم الحدود، شبيهاً بالذي لعبته عام ٢٠٠٠ في رسم الخط الأزرق على الحدود البرّية بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. وذلك من أجل حلّ النزاع، بعد اقتطاع إسرائيل جزءاً من المنطقة الاقتصادية الخالصة مليئة بالنفط والغاز. وعلى رغم إبداء الأمم المتحدة تجاوباً مع الطلب اللبناني، لم يحدث أي شيء، علماً بأنه تمّ تشكيل هيئة كان الدبلوماسي الأميركي فريديريك هوف يترأسها للتفاوض والتوصل الى اتفاقية بشأن الحدود البحرية اللبنانية ــ الفلسطينية.

ترسيم الحدود ليس
حلاً نهائياً، بل إنه بداية
لأزمة أخرى



عدم الترسيم أتاح لإسرائيل البدء بإنتاج الغاز من حقلي لوفياتان وتمار للاستهلاك الداخلي. وفتح أمامها المجال بالتنقيب في المياه الحدودية غير المرسّمة، ما يعني إمكانية التعدي على المنطقة المتنازع عليها، وهي مثلث بحري بمساحة تفوق الـ ٨٠٠ كيلومتر مربع، يؤكد لبنان أنها تعود له، فيما تحاول إسرائيل ضمها إلى المساحات التي تحتلها. وقد ذهبت إسرائيل في اعتدائها أبعد من ذلك، حين أعلن وزيرا الطاقة يوفال شطاينيتس وحماية البيئة زئيف إلكين الإسرائيليان في آذار الماضي أنهما سيطرحان على جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية والكنيست اقتراحاً للمصادقة على ترسيم الحدود البحرية ــ الاقتصادية، بهدف التنقيب عن موارد طبيعية واستخراجها، على أن يشمل ذلك منطقة يوجد خلاف بشأنها مع لبنان.
ولعب الأميركيون في ظل الإدارة السابقة دور الوسيط في ما خص المنطقة البحرية المتنازَع عليها. وعيّنت مجموعة شخصيات رفيعة المستوى لتولّي متابعة هذا الملف. وقد ذكّر بهذا الدور النائب وليد جنبلاط منذ أسبوعين، عبر تغريدة له على «تويتر» بالتسوية التي قدمها هوف، معتبراً أنه «لو جرى الاستفادة منها لكانت لصالح لبنان».
بالعودة إلى التسوية المذكورة، فقد خلص هوف إلى اقتراح ينص على تقسيم المنطقة المتنازع عليها بشكل مؤقت، بحيث يعود ثلثاها إلى لبنان والثلث الباقي إلى الاحتلال الإسرائيلي، من دون إلغاء حق لبنان بالترسيم الذي وضعه بنفسه وينص على أن كامل الـ 830 كلم مربعاً المتنازع عليها تابعة للسيادة اللبنانية. وتعهد هوف آنذاك بأن تعمل الإدارة الأميركية على «إقناع إسرائيل بالحل المؤقت الذي لا يعوق تحقيق مصلحة الجانبين الإسرائيلي واللبناني ببدء التنقيب عن ثرواتهما الغازية والنفطية».
ورداً على سؤال «الأخبار»، قال بري إن كلام جنبلاط «مرفوض. أنا لم أسمع به، ولو قرأته لكنت رددت عليه». وأشار إلى أنه أبلغ مسؤولين من الأمم المتحدة أخيراً عدم القبول بأي تسوية تقتطع من ثروتنا، وقال «نحن لا نريد كأس ماء من مياه فلسطين المحتلة، لكننا لن نتنازل عن كوب ماء من مياهنا».
وكشف برّي أن المشكلة الوحيدة التي لا تزال عالقة هي «إصرارنا على أن تترأس الأمم المتحدة أي اجتماع ثلاثي، كما كان يحصل في الجنوب»، في حين أن «مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوشتين كان يُصر على ترؤسها». وبحسب بري: «نحن نريد أن يكون الأميركي طرفاً مساعداً فقط».
جدير بالذكر أن هوشتين طرح سابقاً فكرة حل خلاصتها رسم خط أزرق بحري غير نهائي، على أن تبقى المساحة المتنازع عليها بمحاذاة هذا الخط من الجهتين اللبنانية والفلسطينية، خارج عمليات التنقيب إلى حين حسم الترسيم النهائي، على أن يتم البدء بعملية الاستثمار في بقية المناطق غير المتنازع عليها وفق إطار التفاهم أو الاتفاق على الخط الأزرق البحري المتوافق عليه من الطرفين.
مصادر مطلعة على الملف، اعتبرت أن تعهد الأمم المتحدة يعني أن «الطرف الإسرائيلي يقبل بما يطرح لترسيم الحدود»، متسائلة «هل أعطت إسرائيل إشارة بهذا الشأن»؟ ورأت المصادر أن «إسرائيل تستعجل الترسيم لأنها تريد شركاء في التنقيب والتصدير، وهذا الأمر لن يحصل في ظل وجود نزاع في المنطقة البحرية». وأشارت الى أن «الشركات العالمية كالسمك لا تعترف بالحدود بين الدول، وهي في حال قررت البدء بعملها ستعمل في البلوكات اللبنانية والإسرائيلية».
وقالت المصادر إن «اقتراح هوف السابق جاء بالتزامن مع اتخاذ قرار بإنشاء معمل لتسييل الغاز في قبرص بكلفة ٧ مليارات دولار. وقد كان تشغيل هذا المصنع يحتاج الى كمية غاز إضافية يتم تأمينها من لبنان، لأن الغاز الإسرائيلي والقبرصي لم يكُن كافياً. لكن لبنان رفض لأن شركة (ديليك) الإسرائيلية كان لها حصة في هذا المصنع».
ولفتت المصادر إلى أن «ترسيم الحدود ليس حلاً. هو بداية لأزمة أخرى. أولاً لأن تصدير الغاز والنفط لن يكون سهلاً. فكلفة التصدير عالية وحاجة السوق محدودة. وثانياً لأن البلوكات المتنازع عليها، ليس من المؤكد أنها تحتوي على الغاز والنفط. فوفق دراسة أميركية يحتوي البلوك رقم ٨ على مكامن مشتركة مع حقول إسرائيلية وقبرصية، أهمها حقلا تانين ولفيتان ويحتويان على كميات كبيرة من الغاز. وفيما منعت إسرائيل الفريق المعني بالمسح الثلاثي الأبعاد من الوصول الى تلك المنطقة، تبين أن الحقل القبرصي المحاذي لنا خالٍ من الغاز، ما يعني إمكانية عدم وجود غاز من جهتنا».
سياسياً، استبعدت المصادر ترسيم الحدود لأن «الطرفين المتنازعين لن يقبلا بالحلّ الوسط الذي ستطرحه الأمم المتحدة. وهو بطبيعة الحال لن يعيد الى لبنان كل المساحة المذكورة»، معتبرة أن «ما يقال يساعد إسرائيل على توقيع عقود مع شركات التنقيب في البلوكات المحاذية للبنان، بعد طمأنتها بأن المنطقة غير متنازع عليها، وأن الأمم المتحدة هي التي تتولى حمايتها، ونكون نحن خارج اللعبة». أما بري، فيؤكد أنه «لن يكون هناك تنقيب على الحدود من قبل إسرائيل، ما لم يبدأ التنقيب في لبنان، بحجة أن الشركات لا تستثمر في منظقة متنازع عليها. هذه الحجة تطبق على الطرفين».