«إن كلاً من الرأسمالية والاشتراكية واضح بشأن الظروف الضرورية لخلق الثروة، أما الشعبوية فلا»آلان غرينسبان

بعد أن انقشع غبار الصراع السياسي حول قانون الانتخاب، عقد لقاء بعبدا التشاوري من أجل رسم سمات المرحلة المقبلة من الآن وحتى حصول الانتخابات النيابية، أي في مرحلة ال 11 شهراً التي ستكون مفصلية في تاريخ لبنان الحديث.

فلأول مرة أصبح في لبنان قانون انتخابي، على الرغم من تفريغه جزئياً لمضمون ومفاعيل النسبية، يمكن من خلاله لقوى المعارضة أن تخرق الجمود السياسي الذي طبع الحقل العام لمدة طويلة. وعملاً بمقولة بيل كلينتون في 1992 "إنه الاقتصاد أيها الأبله" التي اجترحها بالمناسبة مهندس حملته الانتخابية جيمس كارفيل، والتي كسر فيها احتكار الجمهوريين للسلطة في الولايات المتحدة منذ عام 1980، كان التركيز أيضاً في لقاء بعبدا على الاقتصاد والذي يمكن قراءته على أنه "الطلقة الأولى" في المعركة القادمة التي تعلم القوى الحزبية الحاكمة أنها ستخوضها عاجلاً أم آجلاً، والتي لربما اختارت تأجيلها، لا تقنياً لأسباب واهية كالبطاقة الممغنطة أو أن يتعلم الناس تفاصيل النسبية (بالمناسبة فإن القانون النسبي يتمتع بأنه لا ضرورة للناس أن يفهموا ميكانزماته)، ولكن على أمل تحقيق نجاحات اقتصادية في الأشهر الممددة تستخدم كأسلحة انتخابية، لأنه أصبح من الواضح للجميع أن الأزمة الاقتصادية أصبحت أعمق من أن يتم تجاهلها حتى من أعتى المدافعين عن النموذج الرأسمالي الريعي الذي حكم لبنان لمدة 25 عاماً.
ولكن شتان بين تركيز حملة كلينتون على الاقتصاد، إذ اقترح فيها سياسات مغايرة لسياسات حقبة ريغان وبوش الأب، وبين تركيز وثيقة بعبدا على أهداف عامة، بعضها جديد ولكن من دون ذكر تغيير السياسات. تنقسم الوثيقة إلى جزئين اقتصاديين، سأتناول الجزء الأول منها حيث بعض "الجديد" فيه مأخوذ من طروحات منتقدي النموذج الاقتصادي القديم. تطرح الوثيقة "وضع وتنفيذ خطة اقتصادية شاملة تنبثق منها الخطط القطاعية، وموازنة الدولة (...) على أن تؤدي المحصلة إلى تأمين النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل، وتحقيق الإنماء المتوازن، والاقتصاد المنتج، وتوفير الأسواق الخارجية تصحيحاً للخلل في الميزان التجاري وحماية الأسواق الداخلية والإنتاج، ومنع الاحتكارات، والاستثمار في القطاعات الاقتصادية العصرية، والتي يمتلك اللبناني فيها قيمة مضافة، مثل المعرفة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات (...) وترتكز هذه الخطة على الإفادة من ثروة لبنان الكبرى التي هي عنصره الإنساني بمبدعيه ومثقفيه ومجتمعه المدني".
إن أي قارئ بعمق لهذا التوجه لا بدّ أن يرى فيه مزيجاً من الإنشاء الاقتصادي والأهداف المتعددة "المجمعة" من كل حدب وصوب، من البديهي (النمو وخلق فرص العمل) إلى تنفيذ "اتفاق الطائف" (الإنماء المتوازن) إلى مطالب الصناعيين (حماية الأسواق الداخلية) مروراً أيضاً بمطالب "الناس" (منع الاحتكارات). وفيها المتناقض الواضح أيضاً (حماية الأسواق الداخلية vs توفير الأسواق الخارجية). بالإضافة إلى أن كل هذا سيكون ضمن "خطة اقتصادية شاملة" لحكومة أكثرية، قواها المكونة لها رددت لفترات طويلة مقولاتها الضحلة حول رفضها للخطط ودفاعها عن قدسية الاقتصاد الحر وضد تدخل الدولة في الاقتصاد إلخ من المعزوفة المسأمة لمن يريد فقط إضفاء الطابع الفكري على عملية حماية مصالح مالية وريعية متجذرة في الاقتصاد اللبناني.

الريعيون اللبنانيون ليس
لديهم خطة لخلق الثروة بل للاستيلاء عليها

فهذه المصالح الريعية والمالية متناقضة موضوعياً مع أهداف "الاقتصاد المنتج" و"الاستثمار في القطاعات الاقتصادية العصرية" والإفادة من "ثروة لبنان الكبرى" أي الأنسان اللبناني، وذلك لأن تحقيق هذه الأهداف بحاجة إلى سياسة صناعية - تكنولوجية وعلمية كبرى تحوّل الموارد نحو هذه القطاعات العالية الإنتاجية وتربط خلق فرص العمل بديناميكية القطاعات العصرية الجديدة، كما هي بحاجة إلى استثمارات عامة كبرى في البنى التحتية. وهذه السياسات الجديدة عندها ستنقل لبنان من اقتصاد الريع إلى اقتصاد عصري. ولكن أي تحول اقتصادي جذري مثل هذا لا يأتي عبر "الوثائق"، وعلى الخطة أن تبين كيف سيحصل هذا والأهم من أين ستأتي الموارد لتحقيق هذا التحول (انظر مقالتي الأخيرة "استغلال النموذج لإنهائه" http://www.al-akhbar.com/node/279091).
فإن الموارد لا يمكن ألا تأتي عبر الضرائب على الثروة المتراكمة في أيدي القلة منذ 25 عاماً وعلى "استغلال" القطاعات الريعية عبر الضرائب وغيرها من ميكانيزمات الأسعار. كما أن بناء اقتصاد منتج عصري يعتمد على الثروة الإنسانية اللبنانية، لا يمكن أن يتم من دون تغيير في "تحويل للثروة والملكية" من الريع الخامل إلى القوى المنتجة. ففي لبنان، الذين يبادرون لا يملكون أما الذين يملكون فهم لا يبادرون، فالتجربة في الخمس وعشرين سنة الماضية قد برهنت أن الذي دمّر وقتل المبادرة الفردية أو الريادة هو تكدس الثروة لدى الريعيين من المصارف وأصحاب الرأسمال الكبير، والذي أنتج اقتصاداً تسود فيه القطاعات المتدنية الإنتاجية ولا يستعمل الرأسمال الوافد للتقدم الاقتصادي، ولا يؤدي إلى نمو مستدام وتضميني (انظر تقارير البنك الدولي الثلاثة الأخيرة).
وما تقوله الوثيقة من "إشراك القطاع الخاص عبر إقرار القانون المعدّ لذلك وتشجيع المبادرة الفردية، واعتماد سياسة تسليفية تشجيعية للقطاعات المنتجة يكون المصرف المركزي عمادها" هو بعيد كل البعد عن ما تحتاج إليه الخطة الاقتصادية الشاملة بل في غير محله ويكاد يكون كاريكاتورياً.
فهنا نحن بحاجة إلى كسر الحلقة المفرغة أو الجهنمية الريعية لأن هذه الثروة الانسانية تُهدر الآن في التصدير إلى الخارج والبطالة والعمل غير النظامي والبطالة المقنعة، وهذه البطالة المقنعة الخبيثة منتشرة بشكل مؤذ وكبير بحيث أصبح يعمل العقل اللبناني بشكل شبه احتكاري في خدمة الريع في الداخل وفي الخارج. وإذا أخذنا الجامعات مثالاً لمراكز تركز هذه الثروة ومكان إنتاجها، فهي تكاثرت لا لإنتاج العلم والمعرفة بل لإنتاج جيوش المتعلمين الذين ينتهون موظفين "خدماتيين" وهي بأكثريتها تستعمل أكاديمييها، لا لإنتاج الأبحاث والتقدم العلمي، بل في إطار تعليمي محكوم بحسابات الربح الخاص قصيرة الأمد. وهذا الأمر ينسحب أيضاً على هدر الثروة الإنسانية في المؤسسات الأهلية التي تنتج خدمات متفرقة ومن خلال تحطيم الثقافة والصحافة والإعلام وتهميش مراكز الأبحاث في هذا الاقتصاد الريعي الذي يجعل التقدم التكنولوجي يلهث وراء التعلم. فالحل إذاً ليس بالمزيد من التعلم والتعليم بل بلحاق التكنولوجيا بالتعليم ونزع الصفة الريعية عنه. فالسباق بين التعلم والتكنولوجيا عندما يربحه الأول يذهب الأخير هباء وهدراً، ولذلك نرى مردود التعلم على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية ضعيفاً إن لم يكن سلبياً في لبنان.
إذاً ما نحن بحاجة إليه لا يقل عن ثورة اقتصادية لإنقاذ الثروة اللبنانية الحقيقية عبر إنهاء النموذج الاقتصادي القديم، لأن الرأسماليين الريعيين اللبنانيين ليس لديهم خطة لخلق الثروة بل للاستيلاء على الثروة. وهذا الإنقاذ يتطلب إجراءات جذرية قد نكون لأول مرة منذ 1992 على أبواب فتح الآفاق لها، فتحقيق أي من أهداف "وثيقة بعبدا" لن يكون عبر اجتماع القوى التي وقعت عليها، وأكثرها على الأرجح وقعت إما انتخابياً أو روتينياً أو لم تعلم على ماذا توقع، بل عبر التغيير السياسي الذي من المطلوب أن يخلق موازين قوى اقتصادية - سياسية جديدة. فنحن الآن لسنا بحاجة إلى شعبويات أياً كان مصدرها. وأعتذر من القراء لإعادة مقولة غرينسبان في الأعلى ولكنها تصيب رأسماليتنا اللبنانية في الصميم وأيضا دولتنا، التي هي أسوأ من التائه الذي يبحث عن ما فقده تحت الضوء، إذ أنها تبقى كما قلت سابقاً "دولة فاشلة لراسمالية فاشلة" (https://www.al-akhbar.com/node/276331
عندما وضعت سياسة "النيب" في الاتحاد السوفياتي، قال فلاديمير لينين إننا نأخذ خطوة الى الوراء لنحقق خطوتين إلى الأمام في واقعية ثورية عبقرية قل نظيرها. اليوم قد يكون قانون الانتخاب الجديد خطوة الى الوراء قياسا بما كان يمكن تحقيقه مثالياً، ولكن المهمة الأساسية لقوى المعارضة ان تحول هذه الخطوة الى الوراء الى فرصة لكسر الاحتكار السياسي لقوى النموذج القديم، يؤدي إلى اقامة تحالف سياسي جديد، قد يكون من بينه بعض القوى التي قد تكون كتبت في بعبدا الوثيقة الاقتصادية إيمانا منها فعلا بالتغيير والاصلاح وصولاً إلى العصرية والتقدم. فهذه القوى تكون بعد ذلك قد تحررت من "العبء السياسي أو الميثاقي" (انتخابات رئاسة الجمهورية؛ قانون الانتخاب؛ حكومة العهد الأولى)، الذي ربما قد دفعها الى مهادنة الراسمال الريعي وقواه السياسية الراعية له. فلنرى!