لو لم يكسر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الإيقاع الداخلي بخطابه الأخير في يوم القدس، لكان الكلام السياسي الوحيد ينحصر بالانتخابات المؤجلة والاستعداد لها. لكن لا يمكن الفصل بين الخطاب وتأجيل الانتخابات 11 شهراً حتى الآن، كما عن جملة مستويات محلية وإقليمية تتعلق بوضع حزب الله وأسلوب تعاطيه مع الملفات الإقليمية الساخنة حالياً، إذ إن خطاب نصرالله يتعدى، في خلفيته، العبارة الوحيدة التي ركز عليها خصومه عن «فتح الأجواء لعشرات الآلاف بل مئات الآلاف من المجاهدين والمقاتلين من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي ليكونوا شركاء في هذه المعركة (مع إسرائيل)، من العراق ومن اليمن ومن إيران ومن أفغانستان ومن باكستان».
فهذه العبارة، التي أريد لها أن تكون مفتاح الخطاب في نظر خصوم حزب الله الذي صوّبوا عليه من خلالها، تأتي في إطار إقليمي ومحلي لا يمكن القفز فوقه، سواء في موضوع القدس ومستقبل علاقات الدول العربية مع إسرائيل، أو تحديده وضع حزب الله على مستوى إقليمي لا ينحصر بالوضع اللبناني، وصولاً الى احتمالات الحرب مع إسرائيل. وإذا كان المتابعون لكلام نصرالله يتوقفون طويلاً عند هذه البنود الأساسية التي تحتاج الى قراءات مفصلة، فإن ثمة إشارات لافتة لانعكاس الخطاب لبنانياً يمكن الحديث عنها.
أولاً، كان حزب الله، في ترتيب أولوياته محلياً وإقليمياً، مؤيداً لترحيل الانتخابات الى السنة المقبلة، ولم يبد أي ممانعة في القرار الذي كان يدافع عنه تيار المستقبل والرئيس سعد الحريري. والحزب الذي ضمن على الأقل الانتقال من النظام الأكثري الى النسبي، وإن كانت الثنائية الشيعية لا تتأثر بحجم مقاعدها في النظامين، كان حريصاً على منع تفلت الأمور داخلياً خلال مرحلة الحوارات الأخيرة، ما دام سقفها التمديد للمجلس. وبما أن عدم إجراء الانتخابات حالياً هو المطلوب أولاً وأخيراً، تحوّل كل ما دونه إلى تفاصيل، لأن حزب الله يدرك أكثر من غيره الحاجة الى تزخيم داخلي، كي يتكئ عليه، فلا يواجه العاصفة المقبلة عليه منفرداً. لذا قبِل بتنازلات في القانون لمصلحة حليفه التيار الوطني الحر، كالصوت التفضيلي في القضاء، مع 15 دائرة، لرغبته في طي هذا الملف والانتقال الى مرحلة أكثر جدية.

يدرك الحزب أن
ثمة مصالح إقليمية ودولية متشابكة تهدف إلى
التضييق عليه

وفي وقت ينصرف فيه الحزب الى معالجة الملفات الإقليمية، يبتعد نصرالله عن مقاربة الشأن الداخلي في خطابه الأخير، لا قانون الانتخاب ولا حوار بعبدا ولا طبعاً شؤون الموازنة وشجونها. وفيما يخرج الحزب من الجمود الداخلي الى مساحة إقليمية شائكة، تدخل القوى السياسية ومعها البلد كله في مزاج الانتخابات واللوائح والمرشحين وكأن موعد الاستحقاق غداً، من دون الالتفات الى عمق المأزق الذي يواجهه لبنان، في ظل الاحتدام الإقليمي والدولي.
ثانياً، ليس خافياً حجم الاستحقاق الأقرب الآتي على الحزب، أي العقوبات الأميركية. لكن الحزب الذي يحرص على تحييد نفسه عن الكلام فيه، يدرك أن ثمة مصالح إقليمية ودولية متشابكة تهدف الى التضييق عليه، في مرحلة حساسة تتعلق بساحات وقضايا كان نصرالله واضحاً في تفنيدها في خطابه. وهو لا يضع هذا التطور المالي جانباً، وهو العارف بخطورته، لا بل إنه بحسب عارفيه يتابع «تفاصيل التفاصيل» المتعلقة بهذا الملف، لكنه يصوب الأنظار سياسياً وعسكرياً على ما هو أكثر احتكاكاً مع ملفات إقليمية ودولية شائكة، فيرفع مستوى الخطاب وتوجيهه الى حيث يمكن حشد الإجماع «الداخلي» حول موقفه من القضايا التي يعمل الحزب على الدفاع عنها بحسب أدبياته.
ثالثاً، إن استهداف السعودية في كلام نصرالله ليس أمراً جديداً، لكن التوقيت الحالي في زمن المتغيرات السعودية وتعيين ولي العهد الجديد محمد بن سلمان، وما يُنسج من علاقات سعودية ــــ أميركية في ملفات أشار إليها نصرالله، يرسم إطاراً آخر لما تقبل عليه المنطقة. أما لبنانياً، فكلام نصرالله المتزامن مع زيارة الحريري للسعودية، لم يتفاعل لبنانياً إلا بالقدر المضبوط، لأن الحزب الذي يركن الى العهد ورئاسة الجمهورية، ويحمي بشخص نصرالله مواقف وزير الخارجية جبران باسيل كما حصل أخيراً، يعرف في المقابل أن الحريري أيضاً لن يتخطى في الوقت الراهن إطار اللعبة اللبنانية الداخلية، لمصالح متشابكة. وأي منحى آخر في غير هذا الاتجاه، سينذر حينها بتطورات أكثر خطورة، لا تبدو أنها في الأفق حالياً. فالحلقة الحقيقية بالنسبة الى الحزب هي حجم هذه العلاقة مع رئاسة الجمهورية في مرحلة مفصلية ودقيقة، لا يمكن أن يصدر عنها اعتراض على كلام يمس السعودية التي لم يستقبل ولي عهدها الجديد محمد بن سلمان، حين كان لا يزال ولي ولي العهد، رئيس الجمهورية في أول زيارة له للرياض في كانون الثاني الفائت. أما اتصالات التهنئة المتبادلة بين عون وولي العهد، فتبقى في الإطار البروتوكولي المحض، كما تبقى ردود الفعل السياسية على كلام نصرالله من التقليد المعروف لبنانياً. لكن العبرة المنتظرة لتطور موقف الحريري، وهو حتى الآن مضبوط الإيقاع، ولا يشبه حتى الساعة ما قاله قبل عامين عن كلام نصرالله ضد السعودية «إنها عاصفة الكراهية ولا تستحق سوى الإهمال».