رسمياً، صار للبنانيين قانون انتخابي جديد، بصورة لم يعهدوها من قبل. النسبية باتت أمراً واقعاً. وصدور القانون يوم الجمعة المقبل عن مجلس النواب لن يكون سوى تحصيل حاصل. والجلسة التشريعية ستمر بهدوء، باستثناء بعض الاعتراضات، أبرزها سيكون من نصيب رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل، الذي سيستغلّ الفرصة للتصويب على خصومه، وعلى رأسهم التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.
سيسعى الجميّل إلى القول إنه أكثر السياسيين شبهاً بـ«المجتمع المدني»، وإلى تصوير نفسه «خارج الطبقة السياسية».
قبل الوصول إلى مجلس النواب، سقطت غالبية «الإصلاحات» التي نودي بها إلى جانب النسبية. لا خفض سنّ الاقتراع أُقرّ، ولا «الكوتا النسائية». وفي الحالتين، لم تشهد البلاد تظاهرة واحدة «تخيف» القوى التي طبخت قانون الانتخاب. لا تحركات نسائية أو شبابية كبرى هدرت في الشوارع مطالِبة بالكوتا، وبإصلاحات جدية. التحركات كانت محدودة، كمّاً. وكأن بعض الجهات كانت تنتظر من «النظام الحاكم» منحها «إصلاحات» تؤثّر جدياً على صلب النظام، مجاناً، وبلا أي جهد. ثمة حقيقة أُثبِتت مرة جديدة، هي أن القوى التي تزعم تمثيل «الأكثرية الصامتة» عاجزة عن «تحريك الجماهير» للضغط باتجاه إقرار إصلاحات جديىة. كانت معركة القانون نقاشاً بين نخبة، على تحسين النظام الانتخابي لا أكثر. القوى الأخرى غابت تماماً. بعضها شارك في النقاش، فبدا جزءاً من هامش النخبة. أما «المتن الشعبي» الضاغط، فلم يظهر أبداً.
في النهاية، أنتجت الطبقة السياسية قانوناً أفضل من صورتها. هو أفضل ما يمكنها إنتاجه. ولولا التشوهات التي أدخِلت على القانون، لأمكن القول إنه أفضل من الممكن. أبرز تلك التشوهات في دائرة «صيدا ـ جزين». فهذه الدائرة تضم قضاءين غير متصلين جغرافياً، إذ تفصل بينهما قرى قضاء الزهراني، الذي يُسمى أيضاً «قضاء قرى صيدا». ورغم ذلك، وُضِع الزهراني مع صور، وصيدا مع جزين. حتى غازي كنعان، في عزّه، لم يجرؤ على فعل ذلك. ففي قانون الانتخابات عام 2000، وضع بشري مع الضنية وعكار. ورغم التباعد بين الأقضية الثلاثة، فإنها على الأقل متصلة جغرافياً، على الخريطة. تشوّهٌ آخر يتصل بدائرة «صيدا ــ جزين»، يكمن في أنها تضم 5 مقاعد فقط. وفي العادة، إذا أردنا التحدّث عن عدالة انتخابية، وجب اعتماد معيار «شبه علميّ»، ينص على ألا يفوق عدد المقاعد في أكبر الدوائر ضعفي عدد المقاعد في الدائرة الأصغر. وفي حالة القانون الراهن، كان يجب ألا يتجاوز عدد المقاعد في أكبر الدوائر عتبة الـ10 مقاعد (أكبر الدوائر حالياً هي دائرة الشوف ـ عاليه، وتضم 13 مقعداً)، أو ألا يقلّ عدد المقاعد في أصغر الدوائر عن 6 مقاعد.

سيكون على «الداخلية» إيجاد آلية لطبع أكثر من مليوني بطاقة، في غضون أقل من 11 شهراً


وفضلاً عمّا تقدّم، ثمة ثغرة كبيرة تعتري إمكانية تطبيق القانون، هي البطاقة الممغنطة. وهذه الثغرة لم تجد بعد من يجزم بإمكان تجاوزها. طابخو القانون اتفقوا على أن يعرّف الناخب عن نفسه، ببطاقة خاصة، ممغنطة، تتضمن معلومات شخصية عنه. وهذه البطاقة ستحل، في مركز الاقتراع، محل بطاقة الهوية وجواز السفر. وسيكون على وزارة الداخلية إيجاد آلية لطبع أكثر من مليوني بطاقة، في غضون أقل من 11 شهراً تفصل عن موعد الانتخابات. ورغم صعوبة تحقيق هذا الهدف، فإن «الداخلية» تجزم بقدرتها على فعل ذلك. لكن، ما الهدف من هذه البطاقة؟ الجواب هو تمكين الناخب من الاقتراع، لمرشحي دائرته، من حيث يسكن (وهذا هدف «ثوري» إلى حدّ ما، بالمقاييس اللبنانية). ولا ضرورة معها إلى الانتقال إلى الدائرة التي ينتمي إليها الناخب لممارسة الحق بالاقتراع. ففي كل قلم اقتراع، سيكون أمام رئيس القلم جهاز موصول بكومبيوتر. وفور تمرير البطاقة الممغنطة على الجهاز، ستظهر معلومات عن الناخب: هويته ومكان قيده. سيدلّه رئيس القلم إلى الصندوق المخصص لدائرته (وهذا يفترض وجود 15 صندوقاً داخل كل قلم اقتراع). وثمة احتمال آخر أن يكون الصندوق موحّداً، لأن الفرز سيكون إلكترونياً. ما يعني أن كل قلم اقتراع سيكون مجهّزاً بآلة لقراءة أوراق الانتخاب. وهذه الآلة موصولة بكومبيوتر، موصول بدوره بشبكة كبرى، تصل كل مراكز الاقتراع بمركز إلكتروني ضخم، سيمكّن من تسجيل اسم كل ناخب (لمنعه من الاقتراع مرة ثانية)، وسيسمح بفرز الأصوات. ما يجري الحديث عنه هو نظام ينتمي إلى عصر أحدث التقنيات في العالم، لكن في بلد بنيته التحتية ونظمه تكاد تنتمي إلى عصور ما قبل الثورة الصناعية.
أسئلة عديدة تطرح هنا: هل فعلاً أن الدولة اللبنانية قادرة على تحقيق ذلك؟ وما الذي يضمن عدم تدخّل قرصان ما، للتلاعب بالنتائج التي ستُفرز إلكترونياً (مجدداً، ينبغي التذكير بأننا في لبنان)؟ ولماذا إلزام المواطنين بالحصول على بطاقة ممغنطة خاصة بالانتخاب؟ لماذا لا يُنشأ نظام إلكتروني قادر على قراءة بطاقة الهوية وجواز السفر، بصورة إلكترونية، ما يتيح للمواطن الاقتراع بهما، بدل إلزام الناخبين باستصدار بطاقة خاصة للانتخابات؟ صحيح أن البطاقة معتمدة في العديد من دول العالم، لكن في بعض تلك الدول، يمكن المواطن أن يستخدم بطاقة هويته بدلاً منها. وفي بعض الدول، كالولايات المتحدة، لا يحتاج الناخب إلى أي بطاقة تعريف (في ثلث الولايات على الأقل). حتى في بعض الولايات التي تطلب من الناخب أن يعرّف عن نفسه، بمقدوره أن يوقّع ورقة بأنه فعلاً الشخص عينه الذي يزعمه، على أن يتقدّم في غضون 10 أيام بوثيقة تثبت صحية هويته. الأمر مفاجئ بعض الشيء، لكنه أمر واقع: أن يذهب شخص إلى مركز الاقتراع، وأن يقول للموظف المعني: «أنا فلان. رقمي كذا». وينتخب، ويغادر.

من يضمن عدم اختراق
قرصان ما آلية الفرز الإلكتروني للتلاعب بالنتائج؟
هكذا، بكل بساطة هي أقرب إلى السوريالية بمعاييرنا. بالتأكيد، لا أحد يطالب بأن يجري اتباع النظام ذاته في لبنان. لكن على الأقل، لا ينبغي إلزام الناخبين بالاستحصال على بطاقة ممغنطة، في بلد لا تزال عشرات آلاف بطاقات الهوية قابعة في أدراج المختارين بعد إصدارها، لأن أصحابها لم يتسلموها، أو لم يعرفوا بصدورها، أو أنها لم تصدر أصلاً. والمقارنة مع الدول الأوروبية تبدو ضرباً من غش المواطنين. ففي تلك البلاد، يتسلم المواطن بطاقته بواسطة البريد. أما هنا، فلا بريد أصلاً. في النقاش الأميركي بشأن بطاقة التعريف عن الناخب (مجدداً، النظام المعتمد في الكثير من الولايات الأميركية يمنح الحق للناخب بأن يقترع من دون إبراز أي بطاقة تعرّف عن هويته، ولهذا السبب اشتكى الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أن ملايين المهاجرين غير الشرعيين صوّتوا لمنافسته)، يجري الحديث عن كون طلب بطاقة تعريف عن الناخب أحد وجوه وضع العراقيل في طريق تشجيع المواطنين على الاقتراع. هنا، يُطلب من الناخب أن يتقدّم بطلب للحصول على بطاقة، لكي يستحق الاقتراع. وطلب البطاقة يعني طلباً من المختار، وصوراً شمسية، وإخراج قيد (هذا الاختراع لا يزال موجوداً!) وبصمات، وانتظار عودة البطاقة بلا أخطاء، في الوقت المناسب!
نقطة سلبية إضافية يمكن وضعها في سجل البطاقة الممغنطة، وهي قدرة الأحزاب الكبرى على مساعدة مؤيديها على الاستحصال على البطاقة، في مقابل عجز القوى الصغيرة، والمرشحين المستقلين، عن القيام بالأمر المماثل. وكأن القوى الكبرى بحاجة إلى دعم إضافي للانتصار على خصومها!
وبعيداً عن تقنيات البطاقة الممغنطة شبه المستحيلة، وعن كونها عبئاً إضافياً على الناخب، ثمة حقيقة ينبغي معرفة كيفية التعامل معها: في بيروت الإدارية، وفي بيروت الكبرى، لا تستطيع وزارة الداخلية تنظيم عملية اقتراع الناخبين حيث يسكنون. عملية الاقتراع في دائرة بيروت الثانية ستشهد على أقل تقدير تصويت 175 ألف بيروتي، يُضاف إليهم نحو 175 ألفاً آخرين. وبعض التقديرات تقول إن الرقم الإضافي سيتجاوز عتبة الـ350 ألف ناخب. وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، سيقترع أكثر من 30 ألف شخص، يُضاف إليهم نحو 70 ألفاً آخرين، على أقل تقدير. هل يمكن أحداً تخيّل قدر الازدحام الذي ستشهده مراكز الاقتراع في هذه المناطق؟ وماذا عن المادة 92 من مشروع القانون التي تقول إن عدد أوراق الاقتراع الرسمية المطبوعة سلفاً، في كل قلم اقتراع، ينبغي ألا يزيد عن عدد الناخبين المسجلين في القلم إلا بنسبة 20 في المئة؟ فهل يعني ذلك أن على الناخب غير المسجّل أن يبحث عن مركز اقتراع شاغر يوم الانتخاب؟ أم أن عليه أن يسجل اسمه مسبقاً في مركز اقتراع محدد؟ أم أن مراكز الاقتراع ستُترك لتشهد يوم 6 أيار 2018 تسونامي من الفوضى غير الخلاقة، ودائماً على الطريقة اللبنانية؟




اللائحة المقفلة واللائحة المفتوحة

في النسبية، لا يعني تعبير «اللائحة المفتوحة» أنّ في مقدور الناخب «التشطيب» أو زيادة أسماء عليها. وتعبير «اللائحة المقفلة» لا يعني العكس. في الحالتين، لا يمكن الناخب اللبناني ممارسة «غريزة التشطيب». اللائحة المقفلة تعني أن اللائحة تكون مرتّبة سلفاً، بما يمنح أفضلية الفوز للمرشحين المدرجة أسماؤهم أعلى اللائحة. مثلاً، إذا تنافست في بعلبك ــ الهرمل لائحتان: لائحة حزب الله ولائحة تيار المستقبل ــ القوات، وإذا حصلت الأولى على 70 في المئة من الأصوات، فإنها تحصل على 70 في المئة من المقاعد العشرة. وتلقائياً، يفوز أول سبعة مدرجين على اللائحة. لائحة المستقبل حصلت على 30 في المئة من الأصوات، فإنها تالياً ستحصل على 30 في المئة من المقاعد، أي 3 مقاعد. يفوز تلقائياً أول 3 مرشحين في اللائحة. لكن اعتماد اللوائح المقفلة مستحيل في لبنان، بسبب التوزيع الطائفي والمذهبي للمرشحين. فمثلاً، إذا رتّب حزب الله مرشحيه في اللائحة المقفلة في بعلبك الهرمل وفق الآتي:
1 ـ سني
2 ـ ماروني
3ــ سني
4 ــ كاثوليكي
5 ـ شيعي
6 ـ شيعي
7 ــ شيعي
8 ــ شيعي
9 ــ شيعي
10 ــ شيعي
وإذا استخدم تيار المستقبل الترتيب نفسه للائحته، عندها، سيفوز أول 7 مرشحين على لائحة حزب الله، وهم سنّيان وماروني وكاثوليكي و3 شيعة، وسيفوز من لائحة تيار المستقبل سنيان وماروني. ما يعني أن الفوز سيكون من نصيب 4 نواب سنة، ومارونيين، وكاثوليكي، و3 شيعة. وهذه النتيحة مستحيلة، لأن القانون يوزّع النواب في هذه الدائرة وفق التوزيع المذهبي الآتي: 6 شيعة، سنيان، ماروني، كاثوليكي.
ولتفادي هذه الفرضية المستحيلة التطبيق، لا بد في لبنان من استخدام اللائحة المفتوحة، أي اللائحة التي لا يستطيع الناخب إضافة اسم أو شطب اسم منها، لكنه يمنح «صوتاً تفضيلياً» إلى مرشح واحد فيها. والصوت التفضيلي يعني أن يضع الناخب علامة قرب اسم المرشّح وصورته، لمنحه أفضلية للفوز على زملائه المرشحين على اللائحة نفسها.