في وقت لا يزال فيه الوسط السياسي مشغولاً بمتابعة النقاش حول قانون الانتخاب، بدأت تتضح معطيات خطرة تتعلق بواقع جديد، عسكري وأمني، في منطقة جرود عرسال، ويشكل خطراً داهماً على الجيش وبلدة عرسال ويرخي بثقله على الوضع اللبناني أمنياً وسياسياً.
ففي معطيات أمنية دقيقة كشفتها مصادر عسكرية لـ«الأخبار»، أن الجيش اللبناني أعلن حال الاستنفار الشامل في صفوفه وقطعه المنتشرة في جرود عرسال والمنطقة المحيطة حيث تنتشر قواته ومراكزه. وتضيف أن الجيش عمل على تعزيز قواته بالوحدات والتجهيزات اللازمة، ويعمل على خطة متكاملة لإقفال كل الثُّغَر والبؤر الأمنية على كامل المنطقة الجبلية والسهول المحيطة. وتأتي عملية الاستنفار هذه بعدما دلّت عمليات الرصد والمتابعة التي يقوم بها بكافة وسائله، على استعداد تنظيم «داعش» لشنّ هجوم شامل ومجموعة عمليات انتحارية في الوقت نفسه على جبهتي النصرة وسرايا أهل الشام المنتشرتين في البقعة الجغرافية المواجهة للتنظيم. والخطورة المتأتية من العمليات المحتملة التي بدأت تظهر طلائعها قبل أيام، لن تنحصر بسيطرة «داعش» على جبهات مسلحة وتصفية حسابات بينها، بل بالسيطرة على مناطق متاخمة لمواقع الجيش، وارتفاع نسبة الخطر من التسلل والهجوم على مواقعه في المنطقة، ولا سيما على تقاطع المثلث الذي تنتشر فيه التنظيمات المسلحة، والقيام بأعمال انتحارية ضده، والتعرض أيضاً لبلدة عرسال وتهديدها بأخطار مباشرة على أكثر من خط.
في التفاصيل، ترسم الخريطة الجغرافية واقع انتشار التنظيمات المسلحة في بقعة جغرافية تعادل مساحتها 480 كلم مربع، تسيطر «داعش» على ثلثي المساحة، فيما تتقاسم النصرة وسرايا أهل الشام الثلث الباقي في مراكز وبقع مقابلة لمنطقة سيطرة «داعش». بحسب التقديرات، يتجمع في منطقة «داعش» نحو 600 مسلح، وينتشر في البقعة المقابلة تقريباً العدد نفسه، موزعين بين النصرة وسرايا أهل الشام.
في الآونة الأخيرة، برزت معطيات أمنية وعسكرية عدة، وتسربت معلومات عن نية التنظيم شن هجوم على النصرة والسرايا، ورصدت مجموعات منه تستعد وتخضع للتوجيه الديني قبل مباشرة الهجمات التي بدأت فعلاً. من هنا تكثفت أعمال الرصد والمراقبة لتتبُّع مسار تحركات التنظيم الذي سيحاول الإفادة من السهل الفاصل بينه وبين الجبهتين المذكورتين للتسلل إلى مواقع الجيش ومنطقة الملاهي وعرسال، مع ما يعني ذلك من خطر عسكري كبير. علماً أن مجموعات «داعش» في المنطقة تبدو وكأنها تتصرف ليس من خلال هيكلية تنظيمية من العراق إلى سوريا إلى لبنان، بقدر ما تتّبع ترتيباتٍ محليةً صرفاً، وتتعاطى مع واقع المنطقة في الإطار المحلي. ولهذا فإنها تعتمد حالياً أسلوب الضغط المباشر والمكثف والذئاب المنفردة وتكثيف عملياتها الانتحارية في سعيها إلى تحقيق أهدافها في الوقت الراهن، علماً أن توقيت بدء عملياتها في شهر رمضان ومع مواعيد الإفطار، يصبّ في خانة تثبيت اتجاهها في تصويت تحركها في الإطار الديني الذي تعمل به.
وبحسب المعلومات، فإن التنظيم يسعى إلى فك الحصار عنه لأنه بات مطوَّقاً من جهة بالجيش اللبناني المنتشر في مراكز عسكرية على كامل المنطقة الممتدة مقابل رأس بعلبك والقاع، ومن جهة أخرى بالجيش السوري وحزب الله المنتشرين داخل الأراضي السورية. ولا ينحصر فك الحصار بالأمور العسكرية واللوجيستية فحسب، بل أيضاً بتأمين طرق الإمداد والتموين اللازم بعدما سدّ الجيش كل السبل التي كانت تسمح له بالتزود بالمؤن، وعزز تدابيره الأمنية وكثّف عمليات القبض على المهربين الذين كانوا يساعدون في تهريب الضروريات إلى عناصر التنظيم.
يحاول التنظيم من خلال سعيه إلى السيطرة على كامل البقعة الجغرافية التي تتحكم بها حالياً النصرة وسرايا أهل الشام، إلى تحقيق أمرين بالغَي الأهمية: أولاً تأمين بقعة جغرافية ملائمة لاستيعاب عناصر التنظيم وتجميعهم والإمساك بالأرض بعد التخلص من خصومه المتمايز عنهم سياسياً وعسكرياً، فيتحول ناطقاً وحيداً، إن في المفاوضات أو في إعادة تشكيل جبهة عسكرية تشكل ثقلاً متشدداً في هذه البقعة، مع ما يعني ذلك من مخاطر عسكرية وأمنية على لبنان.
ثانياً تعني السيطرة على هذه البقعة وتجاوز السهل الفاصل بين التنظيم والنصرة والسرايا، وتخطي منطقة الملاهي، السيطرة على منطقة استراتيجية حيوية، ومواجهة التنظيم للجيش اللبناني مباشرة بمسافة لا تتعدى في مراكز محددة الكيلومترين. وهي تعني أيضاً مواجهة منطقة عرسال والوصول إلى حدودها مباشرة، إذ إن الاقتراب من منطقة الملاهي، يحمل أخطاراً مزدوجة على البلدة، لأن في الملاهي يوجد مخيم للنازحين السوريين يضم نحو 11 ألف سوري، وصول التنظيم إليهم يعني إما السيطرة على المخيم مع المساعدات التي توفّرها المؤسسات الإنسانية للنازحين، أو الضغط على هؤلاء لدفعهم إلى النزوح إلى عرسال.
سياسياً ماذا تعني هذه المعلومات وكيف يمكن التعامل معها؟
في وقت يتعامل فيه الجيش مع هذه المعطيات بجدية، وبمتابعة دقيقة على أعلى المستويات، يمكن الكلام عن المعنى السياسي لهذه التطورات. وبحسب مصادر سياسية معنية بهذا الملف، فإن توقيت ما يجري لافت، ولا سيما أنه يأتي في أعقاب المفاوضات الإقليمية التي كانت تدور من أجل سحب تنظيم النصرة من المنطقة التي ينتشر فيها، وانسحاب مواقع حزب الله من السلسلة الشرقية، وتمركز الجيش اللبناني فيها. وهذا التوقيت في الظروف الإقليمية الحالية، يجب أن يكون حافزاً من أجل التعاطي الرسمي باهتمام فائق، مع ما يجري. لأن احتمال نجاح «داعش» في تحقيق أي تقدم على الجبهة المذكورة، يتعدى الخطر العسكري ومواجهة الجيش (الذي رفع جاهزيته واستنفاره ويقفل كل الثغر والمنافذ ويستخدم القصف المدفعي لوقف تقدم المسلحين)، لأنه سيعيد أسوأ السيناريوهات إلى عرسال. من هنا تبدو ضرورة المسارعة إلى إعطاء ملف عرسال والتحضيرات التي يقوم بها «داعش» اهتماماً سياسياً استثنائياً على مستوى الحكومة، والرئيس سعد الحريري ودار الإفتاء ونواب المنطقة وفاعلياتها، لأن ما يجري في المنطقة متعدد المخاطر. ولبنان اليوم يتمتع بسلطة سياسة متكاملة، بلا شغور رئاسي أو تعطيل حكومي، ما يوجب توفير الغطاء السياسي للجيش والاهتمام بعرسال وحمايتها، لاستيعاب أي تطورات خطيرة ترخي بثقلها على المنطقة.