يسألك: أين تعمل؟ تجيبه: في جريدة «الأخبار». مباشرة، يأتيك تعليقه: «آه، جريدة حزب الله». إن كانت المرّة الأولى، أو الثانية أو ربّما الثالثة، التي تتعرّض فيها لموقف كهذا، فإنّك على الأرجح ستُعلّق نافياً «التهمة». لاحقاً، مع تكرار الموقف، تُصبح أكثر ميلاً للسخرية، فتبتسم في وجه التفاهة، قائلاً: «إيه، هيدي هيّ».
عبثاً تحاول، مع بعض الكائنات، أن توضح الفرق بين أن تكون مؤيّداً للمقاومة، أو مقاوماً مِن مكانك وعلى طريقتك، وبين أن تكون حزبيّاً لا تملك مساحد للنقد أو أيّ هامش للتمايز. تقول ساخراً: «يا عمّي هذه الجريدة تضع، مِن حين إلى آخر، إعلانات للويسكي فيما حزب الله، كما هو معروف، لا يشرب الويسكي، بل يلعن شاربها وعاصرها وبائعها وحاملها وجالسها... وإعلانها». هذه ليس حجّة، طبعاً، ولكنها «قفشة» على سبيل الدعابة. جدال عقيم لا ينتهي. لكن مهلاً، كلّ هذا لا يعني أن الجريدة لم تكن حاضرة للذهاب بعيداً، وقد فعلت، أبعد مما يفعل حزب الله، وأحياناً في ما لا يُحب الحزب الذهاب إليه، ممّا خلق حالة من الحيرة لدى معشر «الهبل»، وبالتالي لم يكن بالإمكان تفسير هذه الظاهرة إلا كـ«توزيع أدوار» وبالتالي «نظريّة المؤامرة» (المقبولة هنا والمرفوضة في كلّ مكان آخر، منهجيّاً، بالنسبة للتفاهة). هذا طبيعي، مفهوم، ففي الناحية الأخرى لا تجري الأمور على هذا النحو.
واللهِ، بكسر الهاء، وبقوّة، لم يوعز حزب الله للزميلة فاتن الحاج إثارة ملف شطب القضيّة الفلسطينيّة مِن مناهج التعليم في لبنان. بعد نشر الملف، وما أثاره مِن ردود، كانت الحاج وبعض الزملاء، في جلسة عفوية داخل العمل، يسألون عن سبب غياب الحزب عن هذا الملف، وكيف يمرّ ذلك مِن غير أن يفعل الحزب «مشكلاً» بحجمه، مع ما يحمله هذا مِن عتب على قدر... المأمول. في اليوم التالي نرى صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيليّة، التي رصدت ما جرى، تزعم أن حزب الله «انتصر» مِن خلال ما نشرته «الأخبار» (كفضيحة) في جعل وزارة التربية تتراجع عن قرارها السابق وتعيد تدريس القضيّة الفلسطينيّة. الحقيقة المرّة، والتي يتردّد حريص في ذكرها، لكن لم يعد ينفع تمويهها، هي أنّ حزب الله، على مستوى حضوره في الدولة اللبنانيّة، مِن أضعف الأحزاب، ولا ينافسه في ذلك ربّما إلا حزب النجادة. يعرف هذا كلّ من قصد حزب الله يوماً طلباً لـ«واسطة» أو خدمة حكوميّة ما. هناك أشياء تحصل في وزارة التربية، وفي غيرها مِن الوزارات والمؤسسات والإدارات الحكوميّة، ولا يعلم بأمرها حزب الله. ذات مرّة ألغت الحكومة (السنيورة) عطلة عيد المقاومة والتحرير، ومرّ الأمر، ولاحقاً في ما سميّ «حكومة حزب الله» (ميقاتي) لم يبادر الحزب إلى إعادة العطلة رسميّاً. سقط الأمر سهواً (كما قال أحد نواب الحزب). هذه معضلة. حزب مِن جهة لا يُريد أن يتورّط في وحل السُلطة، ومِن جهة أخرى يُريد أن يحافظ على مجتمع مقاوم، بل يسعى نحوه، فتكون النتيجة أنّ الطلاب (على مدى 17 عاماً ــ كون القرار الأوّل صدر عام 2000) لم يدرسوا القضيّة الفلسطينيّة، ولا حتى كمسار ووقائع ثابتة للعالم. حسناً، لا تستغرب بعد هذا أن تكون هذه القضيّة، البوصلة، مجرّد هزل في وعي كثيرين مِن شباب اليوم، ولا تتعجب إن لم يعد أحد مِنهم يعرف ما هي أصلاً. إن كان الحزب يراهن على مؤسساته التعليميّة، وعلى بيئته الخاصة، فنعم سيصنع «مجتمعاً مقاوماً»، لكن على مقاسه. مجتمعه هو. أمّا وطنيّاً، في المناهج الوطنيّة، فصنع الأعداء سيكون شغّالاً. لن يدرس التلميذ اللبناني القضيّة الفلسطينيّة، ثم سيكبر، ليجد أن نحو نصف مليون فلسطيني يعيشون في لبنان، كلاجئين. لو لم يكن إلا هذه لظلّ تدريس ما حصل في فلسطين واجباً وطنيّاً.
علينا أن نعترف، الآخرون لا يعتبرون أن فلسطين قضيتهم. بل أكثر، لا يُريدون معاداة إسرائيل، في العمق، بعيداً عن الشعارات العلنيّة التي تُطلق تورية وخجلاً. الآخرون هذه تشمل كثيرين، مِن كلّ الطوائف والمناطق، وبطبيعة الحال لا يُمكنك أن تفرض على وزير أو نائب أو بطرك أو شيخ أو مدرّس أن يتخذ قضيّة على مستوى الوجدان بالقوّة. هذه مسألة تُفرَض، وطنيّاً، مِن قبل الأقوى. هذا هو منطق الأمور في كلّ العالم (الحقيقي). أين يُصرَف كلام مسؤول التعبئة التربويّة في حزب الله، يوسف مرعي، عن أنّ «مراجعات الحزب (في ملف المناهج) لم تؤت ثمارها فبقي المشروع مستمرّاً». هذه تُقبل مِن حزب الله! في القضايا المعيشيّة، قال السيّد حسن نصر الله، قبل مدّة، إنّه يؤيّد التحرّكات ولكن لا يمكنه الإنخراط مباشرة حتى لا يُسيّس ويطوّف التحرّك. دعا الآخرين إلى أن يقوموا بدورهم. هل هذه القاعدة تسري على كلّ شيء؟ حتّى على القضايا الوطنيّة الكبرى؟ هل الإحراج مِن الحلفاء، مثلاً، يستحق التساهل (أو الصمت)، في القضايا الكبرى؟ هل يُقال إن الحزب مشغول في قضايا كثيرة، في الجنوب وسوريا والمنطقة، وبالتالي هو معذور؟ هذا صحيح لو كان كلّ الحزب على الجبهة. لكن هل النائب والوزير والمسؤول والمندوب، المتفرّغ للمسؤوليّة الداخليّة، مشغول على الجبهة أيضاً؟ بالتأكيد لا. مِن الظلم تحميل حزب الله المسؤوليّة وحده، ولكن ما العمل؟ على مَن يُعوَّل؟ الأبواق كثيرة لكن أصحاب القضيّة قلّة. هكذا، تلك السياسة الرماديّة هي التي تدفع رئيسة المركز التربوي للبحوث والانماء (الحكومي ــ حيث تُطبخ المناهج)، ندى عويجان، إلى أن تقول متذرّعة: «في العصر الحالي، إسرائيل تعتبر عدواً ولا نعرف ماذا سيحصل بعد 5 سنوات أو 10 سنوات». هذا تصريح لا يصدر إلا عمّن جرّأه صمت الحليم، وغداً يطمع بأكثر. هذا ليس تصريحاً عابراً.