كاد الاحتفال باحتمال الوصول إلى قانون انتخابي جديد ينسينا جداراً جديداً يرتفع في بيروت، أشدّ وأعمق من الجدار الذي قسّم برلين إلى شطرين، يوم كان العالم تائهاً بين معسكرين. أما اليوم، والعالم «قرية كونية» مختصرة بشاشة هاتف، ترتفع جدران الباطون والعصبيّات الضيّقة، باسم الخوف من «الغريب» واللاجئين و«الهواجس الأمنية».
الباطون في بيروت ليس رخيصاً إلى الحدّ الذي يسمح للقيّمين على ما تبقى من المدينة بأن يُقَسِّموها بجدار، كذاك الذي بات يطوّق عين الحلوة. شحطة قلم على هزّة رأس، وها هي الناجية مرّاتٍ من الطوفان، تعود شرقيّة وغربيّة، في انتخابات نسبية مشوّهة. فـ«طبخة البحص» الانتخابية رست على تقسيم بيروت بإسقاط جغرافي على خطوط التماس القديمة بين الشرقية والغربية، إلى دائرة انتخابية أولى بـ8 مقاعد مسيحية، وثانية بـ11 مقعداً اثنان منها لمسيحِيَيْن، أرثوذكسي وإنجيلي... ربّما من أجل ناخبي حَيَّيْ راس بيروت والمصيطبة، اللذين بقي أهلهما فيهما طوال الحرب الأهلية، لأسباب معروفة، رغماً عن إرادة التقسيميين والتهجيريّين، على ضفتي خطوط الفرز والقنص.
لم يكن سكّان بيروت بداية القرن الـ19 أكثر من 5 آلاف نسمة في المدينة التاريخية المهمّشة. غير أن اختيار إبراهيم باشا المصري، أثناء حملته على بلاد الشام، بيروت لتكون مركزاً وطريقاً إلى برّ الشّام بدل صيدا «المتجذّرة» في العلاقة مع العثمانيين، خلق لها دوراً تاريخياً كواجهةٍ بحرية لدمشق والداخل الشامي. ولعلّ عمق مياه الشاطئ البيروتي في مقابل ضحالة مياه مرفأ صيدا، سمح للمدينة باستقبال البواخر الكبيرة. وأسهم الوجود المسيحي فيها وانتشار الارساليات في أن تكسب بيروت دوراً طوال القرن الـ19 حتى القرن الـ20، بعد تعبيد طريق الشام لتكون رأس حربة المال الأوروبي إلى الداخل، فارتفع عدد السكان خلال قرنٍ واحد إلى نحو 150 ألف نسمة.
الدور هو الذي يصنع المدن ويمنحها ألقها، أو موتها. في القرن الماضي، وجدت بيروت دوراً جديداً، جامعة ومطبعة ومسرح ومساحة حريّة بين دولٍ حديثة مختنقة وصراع فكري ودموي، ومرتعاً للهاربين من «التأميم»، والباحثين عن «الترفيه» بأكياس المال الخليجي المستجدّ. وأحياناً، كانت ملتقى «مخابراتياً» للتآمر على المحيط، وأحياناً أخرى عاصمةً لـ«الثورة الفلسطينية»، لكنّها أكلت نفسها قُبيل الحرب، بين المدينة الغنيّة وأحزمة البؤس، قبل أن تنقسم شرقيّة... غربية. وعلى فظاعة الحرب الأهلية ومتاريس خطوط التماس المغروسة في روحها، سجّلت بيروت الطلقات الأولى لهزيمة إسرائيل الكبرى على رصيف «الويمبي» في الحمرا، والجراح الأثخن بمجازر الانعزاليين في صبرا وشاتيلا، والدرس الأقسى لجنود «المارينز» وزملائهم الفرنسيين.
ويوم أتى رفيق الحريري، حاملاً معه «سوليدير»، قرّر أن يعطي بيروت دوراً جديداً. أن تكون دبي، إذا نجحت مفاوضات «السلام» مع إسحاق رابين. قُتِلَ رابين، ونجت «سوليدير»، فضاع الدور وبقي «الوسط». في السنوات الأخيرة، بيروت/الدور أشبه بسوق للمضاربة العقارية، ومكان للأموال الهاربة، من أميركا بعد 11 أيلول 2001، والأزمة العالمية في 2008، والحرب السورية في 2011 مع مال النازحين، الذي ينضب شيئاً فشيئاً، كما نضب مال منظّمة التحرير الفلسطينية. أكثر من 149 برجاً بُني في بيروت خلال السنوات العشر الأخيرة، نصفها فوق خمسين متراً ونصفها الآخر فوق 100 متر. لمن بُنيت الأبراج؟ ليرى «العاجِيُّون» الضواحي تزداد تقوقعاً، من فوق.
بيروت اليوم مدينة بلا رؤية وبلا دور. فقدت مركزيتها مقابل مركزيات الضواحي، الضواحي المحسوبة على الطوائف. مدينة قالبة على ظهرها. كل هذا لا يكفي. المطلوب «كودرة» الجغرافيا، «كَنْتَنَة» العاصمة، القبض على الخدمات، القبض على الأصوات الخارجة من المنازل، القبض على الهواء، أوكسيجين مسيحي، أوكسيجين مسلم، وغيمة تلوّث كبيرة تقبض على الجميع في المدينة. يريدون دوراً جديداً للمدينة؟ نموذجاً للمدن المنقسمة، للمدن التي تأكلها الجدران الاسمنتية باسم الله. من جديد، شرقية وغربية، بالنسبية الكاذبة، نسبية زياد الرحباني في «فيلم أميركي طويل»... «كل طابق بعد رح يصفّي وحده».