ألا يوجد علماء آثار في لبنان؟ ألا يوجد "مجتمع مدني" أثري؟ ألا يوجد "ناشطون" مِن أجل الآثار؟ ألا يوجد مهتمّون، مجرّد اهتمام ثقافي، بهذا الشأن؟ الظاهر أنه لا جهة دوليّة "مانحة" تُغطّي هذا المجال. كيف يُصبح خبر العبث بآثارات بيروت، ثمّ رميها في الشارع وتكديسها في ورش بناء، بلا حراسة، خبراً عاديّاً؟ إنّها إحدى نتائج "ثقافة سوليدير" التي ضربتنا. منذ نحو ربع قرن وهي تضربنا. المُهم أن ترتفع تلك الأبنية الحديثة، ذات الواجهات الزجاجيّة، اللئيمة الهيئة، الفارغة مِن كلّ روح، هناك حيث مكاتب جني المال... فقط المال.
الظاهر أن شركة "سوليدير" لن تكفّ عن إدهاشنا بالفضائح. ستعيش معنا طويلاً. السنوات المقبلة، وربما العقود، ستكون حافلة بالكثير مِن الجرائم. آخر جريمة، موصوفة، كانت في نقل أعمدة وتيجان أثريّة، تعود إلى الحقبة الرومانيّة، مِن مستودعات "غامضة" إلى موقف في ما يُعرَف بمنطقة "البيال"، هناك في المنطقة المردومة في البحر. كلّ الذين زاروا المنطقة أخيراً رأوا تلك الآثار. كان بإمكان أيّ مواطن أن "يقضي حاجته" فوقها، وقد حصل هذا فعلاً، إذ هي بالنسبة إلى الزائرين مجرّد كومة حجارة. مَن داوم على قصد تلك المنطقة يَعرف أنّ تلك البقعة، تحديداً، هي المكان العُرفي لـ"قضاء الحاجة". أن تتبوّل على آثار بلادك، أو ربّما تتغوّط، وأنت لا تدري، فهل ثمّة سرياليّة أعلى مِن ذلك! تبيّن أن مجموعة مِن تلك الأعمدة نُقلت، قبل ذلك، إلى حرج بيروت. إنّها تلك "الكومة" التي كنا نراها في الحرج، على مدى الأشهر الماضية، ولم نكن نعلم ما هي. كان بإمكان أيّ زائر أن يحفر عليها حرف اسمه، مثلاً، أو "يُشخطر" ما شاء، أو حتى يُخطط لسرقتها. لا شيء يمنع.

«سوليدير» ليست مجرّد شركة،
إنّها سياسة ونظام حكم وطريقة لفهم العالم

مِن أين رفعت هذه "الأشياء"؟ لا أحد يَعلم. إنها تعود إلى منطقة "وسط بيروت". هذا كلّ ما يُمكن معرفته الآن. مِن أيّ نقطة أخذت، أين كانت تحديداً؟ كلّ هذا ضاع. لا يوجد ترقيم لها. لا يوجد سجلّ يحفظ موضعها الأصلي. حصل هذا، بالأصل، مطلع تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت الشركة، إيّاها، تعمل على "إعادة إعمار بيروت". مَن سمح لهم أصلاً بنقلها؟! ما معنى الآثار إن انتُزِعت مِن مكانها لتُعرَض في مكان آخر؟ في أرشيف التصريحات نجدهم يقولون: نفعل هذا لأننا نُريد أن نُشيد بناء جديداً. هكذا بكلّ تمسحة (عذراً مِن صديقنا التمساح). لقد دمّروا بيروت تعاقباً. يقولون اليوم لا يوجد لدينا أمكنة لحفظ تلك الآثار. أعمدة يتيمة ضاقت بها الدنيا. شعوب أخرى تفعل المستحيل للكشف عن حجر أثري لتحفظه برموش العيون. هؤلاء، الذين عندنا، يؤتمنون على دولة! "سوليدير" ليست مجرّد شركة. إنّها سياسة. إنّها نظام حكم. هي طريقة لفهم العالم، نمط للعيش، أسلوب حياة. هي، ومَن خلفها، أتفه مِن أن يديروا مزرعة دجاج، لكنهم، كقوى أمر واقع، أداروا ويديرون دولة. شيء يُصرّ البعض على اعتباره "دولة". هذه الأخيرة مفهوم، كائن، ليست مجرّد الحيّز الجغرافي (الإقليم).
وزير الثقافة الحالي، غطّاس خوري، يُزعجه أن يبدي البعض غضبه مِن هذه المهزلة الحاصلة. يأسف لكون أحدهم (النائب سامي الجميّل) وصف ما يحصل بـ"الداعشيّة". ليته يعلم أن هذا التوصيف غير عادل. "داعش" يهدم الآثار، يفعل ما يفعل وهو مؤمن بما يفعل، بوضوح، بلا مواربة، بلا نفاق، بإعلان وإشهار، أمّا أصحاب ربطات العنق، والعطور الباريسيّة، فهم أوحش مِن "داعش" إذ يفعلون. لمن نشكو؟ سُنخبر "اليونسكو" بكلّ شيء. هل ينفع؟ مضيعة للوقت. جال خوري أخيراً، بعد شيوع الفضيحة، على أماكن رمي تلك الآثار. وعد بنقلها. ومِن هناك قال: "هذه المنطقة اسمها "الزيتونة باي" وقد شيّدت مِن أموال اللبنانيين الخاصة والعامة بكلفة قدرت بملايين الدولارات لتصبح بهذا الشكل اللائق". لائقة! المسألة ذوقيّة معاليك. ما تراه أنت لائقاً يراه غيرك بلا روح، جثّة، موات كروح العصر الحديث. وأيضاً، لا، تلك المنطقة لم يكن اسمها في يوم مِن الأيّام "زيتونة باي". لن تحتاج إلى العودة لجيل أبيك، بل يكفي عمر الوزير ليعلم أن اسمها خليج مار جريس، شفيع بيروت، حيث كانت "الزيتونة" تقع في محاذاته وتُلفظ بكسر النون لا بفتحها، أو هكذا إن شئت: "الزيتوني". هكذا كانت على لسان أسلافنا، قبل "سوليدير" وثقافتها، قبل "الحريريّة" العابرة للطوائف. نحن أمام تشويه لما يُعرَف بـ"التراث الثقافي غير المادي" أيضاً، ومصادرة للذاكرة الجمعية وتزويرها بتزوير الأسماء وتغييرها كشرط للسيطرة على أماكن الناس وتحويلها الى أملاك خاصة.
لو تعلمون ما هو شعار وزارة الثقافة حالياً. يُطالعك موقعها الإلكتروني بالعبارة الآتية: "حافظ على إرثك الوطني... ثبّت أثَرَك على آثارك". حسناً، لقد لبّى بعض المواطنين هذه الدعوة مِن غير أن يعلموا. "قضوا الحاجة" على آثارهم. أحدهم حاضر للإدلاء بمزيد مِن التفاصيل. لديه أدلّة. كاميرات المراقبة في "البيال" تشهد. أما مِن أحد يُريد ضرب "سيفون" بيت الخلاء الكبير هذا!