أياً كان مصير قانون الانتخاب، أسهم وضع الخرائط الانتخابية على الطاولات وتكثيف الإحصاءات الانتخابية في كشف بعض ما كان مستوراً، وخصوصاً ما يخص القوات اللبنانية. ففي قانون الوزير جبران باسيل الأخير، يُقسم جبل لبنان إلى دائرتين انتخابيتين؛ تضم الأولى جبيل وكسروان والمتن وبعبدا، والثانية الشوف وعاليه.
يمثل الأولى 22 نائباً والثانية 13 نائباً. توزيع المقاعد في الثانية ينتظر التفاهم مع النائب وليد جنبلاط أو عدمه في حال إقرار القانون، لكن سواء اتفقوا أو لا فإن النسبية تضمن للعونيين مقعداً في الشوف وآخر في عاليه، وللقوات مقعداً واحداً في الشوف وحده. أما عدد مرشحي القوات اللبنانية في الدائرة الأولى فلا يتجاوز اثنين فقط في أفضل الأحوال، مقابل نحو 15 للتيار الوطني الحر. ولا شك هنا في أن الرقم يوحي بظلم رئيس حزب التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل للقوات. إلا أن التدقيق في الواقع على الأرض يبين أن باسيل يُكرم القوات بإعطائها مقعدين لا مقعداً واحداً؛ ففي جبيل، هناك اليوم التيار الوطني الحر والنائب وليد خوري ورئيس بلدية جبيل زياد حواط ورئيس اتحاد بلديات جبيل فادي مرتينوس والنائب السابق فارس سعيد، ويمكن الحديث عن وجود محدود لحزب الكتائب، لكن لا شيء جدياً ووازناً اسمه القوات اللبنانية.

يبدو منح التيار الوطني الحر مقعداً للقوات في كسروان مبالغة ومخاطرة على السواء

هناك بين مناصري الكتائب وسعيد وحواط من يؤيدون القوات إلى حدّ ما؟ ربما، لكن هؤلاء لا يمكن اعتبارهم قواتيين، علماً بأن سعيد الذي كان أقرب إلى القوات من سائر الجبيليين لم يعد كذلك منذ تفاهم معراب، وهو حذا حذو النائب بطرس حرب في فرملة اندفاعة مناصريه باتجاه معراب. أما القوات التي كانت تعتبر سعيد رأس حربتها في جبيل فلم تُبرز أي وجه قواتي ــ ولو كاريكاتوري ــ كمرشح محتمل أو وارد. وسواء كان لديها مرشح أو لا، فلا شك في أن التيار الوطني الحر يعتقد أنه لا يزال القوة القادرة على الفوز بالمقاعد الثلاثة، علماً بأن النسبية مع دورة تأهيلية أو من دونها ستؤدي إلى خسارة التيار مقعداً في جبيل من أصل ثلاثة في حال عدم تحالفه مع حواط أو سعيد. ولا شك في أن الخسارة ستكون أكثر من مقعد واحد في حال عدم التفاهم مع حركة أمل وحزب الله.
ومن جبيل إلى كسروان يبدو أن الوزير باسيل والعميد المتقاعد شامل روكز يتوافقان حول وجهة النظر القائلة إن منح القوات مقعداً نيابياً فيه مبالغة ومخاطرة على السواء، خصوصاً أن المرشح القواتي المتداول باسمه (شوقي الدكاش) لا يحظى بإجماع قواتيّ حول شخصه، إضافة إلى كونه من فتوح كسروان حيث توجد تخمة مرشحين عونيين. والسبب الأهم من هذا كله، بالنسبة إلى روكز وباسيل، هو حجم القوات. فالتيار أنجز مجموعة تحالفات مع أربع بيوتات سياسية يحظى كلّ من مرشحيها الأربعة بحضور مناطقي أيضاً ليضمن الفوز في هذه الدائرة المعقدة. ولو تخلى التيار عن جيلبرت زوين مثلاً، لكانت اختُرقَت لائحته في الانتخابات الأخيرة بحكم الهامش الضئيل بينه وبين اللائحة الأخرى. وبالتالي، لا أحد يتخيّله يتخلى عن أحد مرشحيه لمرشح لا يحظى بنسبة تمثيل أكبر، سواء كان قواتياً أو عونياً. وهنا يبرز ضعف القوات حيث لا تدخل صالون النائب السابق فريد هيكل الخازن إلا وتجد بعضاً من محازبي القوات المفترضين، ولا تمر بمنزل النائب السابق منصور البون صبحاً أو مساءً إلا وتجد بعضاً آخر منهم، وفي جونية هم منقسمون بين رئيس اتحاد بلديات كسروان جوان حبيش ورئيس مؤسسة الانتشار نعمة افرام، من دون أن يكون لمعراب أيّ تأثير في قسمتهم. هناك مسؤولون وحزب وغيره من المظاهر القواتية، لكنّ المواطنين في كسروان يريدون مرجعية، ولا وجود لمرجعية قواتية. لذلك تجدهم يقولون إنهم مع القوات لكن لديهم أولويات أخرى. وعليه يبدو منطقياً ومشروعاً السؤال العوني عن مبرر واحد لإعطاء القوات مقعداً نيابياً ثميناً في هذه الدائرة. وفي ظل فيتو حبيش على ترشيح افرام كحل وسط، ترتفع أسهم المرشح مارون الحلو الذي يرد اسمه بين اقتراحات حل الوسط بين العونيين والقوات باعتباره من بلدة غوسطا التي يعتبرها النائب السابق فريد هيكل الخازن أبرز معاقله، ولا شك في أن الحيثية المالية تعوّض الحلو عن مجموعات حيثيات مطلوبة أخرى، علماً بأن التيار مهدّد بخسارة مقعدين في النسبية من أصل خمسة، وها هي القوات تطالبه بخسارة مقعد ثالث أيضاً.
في المتن ثمة تسليم بذهاب أحد المقاعد المارونية على لائحة التيار إلى مرشح القوات إدي أبي اللمع. وتجتهد ماكينة القوات لضمّ الوزير ملحم رياشي أيضاً باعتباره أحد عرّابي تفاهم معراب، ولا يمكن الرئيس ميشال عون أن يردّ له طلب، في وقت يحاول فيه المرشح سركيس سركيس أن يكون مرشحاً مشتركاً بين القوات والتيار. وهو ما يؤكد أن القوات تقع هنا أيضاً ضحية مبالغاتها. ففي المتن يمكن الإشارة بوضوح إلى «بلوك» عوني كبير و«بلوك» كتائبي و«بلوك» طاشناق و«بلوك» قومي، وهناك ماكينة المر التي تتألف من مجالس بلدية مرئية للجميع. لكن ليس في وسع أحد أن يدل على «بلوك» القوات اللبنانية التي يتداخل مؤيدوها على نحو كبير مع مؤيدي حزب الكتائب الذي بقي قوياً في المتن خلال الحرب ولم تحصل حركة نزوح كبيرة منه باتجاه القوات كما حصل في المناطق الأخرى، علماً بأن من يخرجون من النبعة وسن الفيل والدكوانة والجديدة وجل الديب للمشاركة في احتفالات القوات يسكنون في هذه البلدات لكنهم من أقضية أخرى. ولا يوجد اليوم بلدة واحدة يمكن القول إن هناك وجوداً قواتياً كبيراً فيها على لوائح الشطب. وعليه ثمة تسليم عونيّ بإعطاء القوات مقعداً في المتن. لكن هذا المقعد اليتيم في دائرة جبل لبنان الشمالي إنما هو هدية عونية، ولن يؤثر وجوده مباشرة على النتيجة في صناديق الاقتراع، علماً بأن القوات تتحدث دائماً عن آلاف البطاقات والمحازبين وغيرهم. لكن من يبحث فعلاً عنهم يتأكد أنهم غير مرئيين.
وفي بعبدا هناك التيار الوطني الحر طبعاً، وهناك وجود في استطلاعات الرأي لبعض رؤساء المجالس البلدية وبعض النواب السابقين، أما القوات فيمكن وضعها في خانة حزب الوطنيين الأحرار والوعد وغيرهما حيث تلوح أعلامها عن بعد، لكن عند الاقتراب يتبيّن أن الأعلام ركّزت على أعمدة الإنارة لعدم وجود من يحملها. فعين الرمانة في الشياح توصف بقلعة القوات مثلاً، لكن في صناديق الاقتراع، سواء البلدية أو النيابية، يتبيّن أن القوات هي الحزب الثالث بعد العونيين وإدمون غاريوس؛ ولا شك في أن القوات تبذل جهداً تنظيمياً كبيراً في هذا القضاء، لكنها لعبت طوال عشر سنوات في ملعب رؤساء المجالس البلدية المناوئين للتيار، وهؤلاء يعرفون كيف يحافظون على جماعتهم. ولا شك في أن القوات لن تبادر إلى المطالبة بأي مقعد في هذه الدائرة في انتظار أن تحقق بعض النمو.
وعليه، في دائرة جبل لبنان الأولى ثمة مقعد مضمون للقوات، ونصف مقعد أو مقعد في حال قرر الوزير باسيل أن يكون كريماً، فتكون النتيجة مرشحَين من أصل 22 مرشحاً. هذا الأمر الذي بات واضحاً في قراءة القوات لتحالفها الانتخابي مع التيار الوطني الحر يوتّر الحلف الطريّ، من دون أن يلويه أو يكسره، بحسب مصادرهما. لكنه يدفع القوات إلى استعراض خياراتها الأخرى، خصوصاً في ظل النسبية. ففي النظام الانتخابي الأكثري يمكن التيار الفوز بجميع مقاعد جبيل وكسروان والمتن وبعبدا، باستثناء مقعدي النائبين سامي الجميّل وميشال المر. أما في النظام النسبي، فلا يمكن التيار الفوز بأكثر من ستين في المئة من المقاعد كحد أقصى، وعليه فإن القوات التي تبدو مجرد فريق ملحق بلائحة العونيين في حال تحالفهما، يمكنها أن تكون عرابة اللائحة الأخرى. الفكرة التي بدأت الهمس بها هنا وهناك تنتظر قانون الانتخاب، بعدما عاد الستين ليدق الأبواب، ما يعيد إلى القوات الأمل بعقد اتفاق هادئ مع العونيين لإغلاق البيوتات السياسية التقليدية، مستفيدين من قدرة القانون الأكثري على إلغاء الخصوم، حتى لو بلغت نسبة تأييدهم في صناديق الاقتراع 49.99 في المئة.