جدّد رئيس بلدية بيروت، بصورة علنية، وعده الانتخابي في كانون الثاني الماضي والمتمثّل بحماية ساحل المدينة وتنظيمه واستخدامه كونه أحد أبرز وأهم ثرواتها. غير أنّ المطلوب منه أن يعلن كيف ينوي التعاطي مع مشكلة التعديات والمخالفات، وعددها أربعون، والتي تشوه الواجهة البحرية للمدينة وتخصخصها.
والواقع أن المجلس البلدي لمدينة بيروت لم يستجب حتى الآن لمطالب الناشطين، والتي تقضي تحديداً بالتدخل لوقف التعدّيات على طول الساحل (وفي مناطق أخرى). وما يبعث على القلق هو أن المجلس ورئيسه بقيا على صمتهما بشأن منتجع إيدن روك/ إيدن باي، وهو مبنى سياحي غير قانوني بشكل فاضح، مؤلّف من سبعة طوابق، تحوّلت قصته إلى ملحمة حقيقية.
يناشد هذا الكتاب مجلس بلدية بيروت المنتخب أن يتّخذ موقفاً استباقياً وتطلّعياً بشأن تنظيم المنشآت على طول ساحل المدينة، فتستعيد الواجهة البحرية دورها وتغدو مساحةعامة، غير مبنية ومفتوحة أمام جميع المواطنين. هذا الكتاب يرفض النهج القائم، والذي بموجبه تؤدي بلدية بيروت دور المنظم المهزوم، حيث تحقق في كل حالة لوحدها في مدى تطابق تراخيص البناء المقدمة للقواعد (القانونية وغير القانونية)، وذلك استجابةً للضغوط التي يمارسها المقاولون والسياسيون (وهما فئتان متداخلتان في كثير من الأحيان). هذا الكتاب يدعو بلدية بيروت إلى القيادة مستعينةً بمجموعة من التدخلات الحضرية التي تزوّد الواجهة البحرية بالمرافق العامة، وتعزّز قيمها الاجتماعية والثقافية والبيئية والاقتصادية، وتسهل وصول الجميع إليها.
بالنظر إلى ملحمة الرملة البيضاء المستمرّة، نلحظ أن معظم النقاش الذي ركّز على بناء منتجع إيدن باي تمحّور حول التحقيق في الحقائق التاريخية والمرجعيات القضائية، وبالتحديد الأساس الذي جرت بموجبه عمليات منح التراخيص. فعلى صعيد صنع القرار الذي يقوده محافظ بيروت، ركّزت المناقشة على أصحاب سندات ملكية الأراضي، وعلى الحجم أو الكثافة التي يمكن اعتمادها في البناء بموجب الوثائق والقوانين المرعية الإجراء، بما فيها مجموعة الاستثناءات والإعفاءات وما يُسمّى بالحوافز. وبروحية الموظف الدؤوب، باشر المحافظ عملية تحقيق في الوثائق التاريخية والمعاصرة. وبعد تحليل نتائج التحقيق، خلُص المحافظ إلى الاعتراف بالطبيعة الخاصة للشاطئ وبحق المقاولين في الإفادة من سلّة من القوانين والإعفاءات التي ضمنوها ومالكين سابقين لتوسيع عمليات البناء على قطع الأراضي المحددة هذه. وقد حُصرت مهمّة التخطيط بمجرد عمليةِ تحقّق من درجة الامتثال، مع العلم أنّ العديد من محاضر التنظيمات قد تمّ إصدارها بشكل مشبوه بسبب التدخل السياسي من جانب المخططين النافذين، الذين لديهم مصالح خاصة ومباشرة في المشروع. وبذلك، فإن تلك الكيانات المكلّفة تنفيذ عملية منح تراخيص البلدية تخلّت فعلياً عن سلطتها (المادة 13 من قانون البناء) التي تقضي برفضها الترخيص لأي نشاط بناء يخلّف آثاراً بيئية و/ أو اجتماعية سلبية، كما الحال هنا بشكل سافر. فضلاً عن ذلك، ومع عدم تجاوب المؤسسات العامة، لا سيما وزارة الأشغال العامة - الوصية على الممتلكات الساحلية والتي طلب إليها المحافظ إعادة تحديد حدود الأملاك العامة - اختار هذا الأخير أن يعترف بحدود الملكيات الموجودة، على الرغم من تصريحات سابقة له أن حدود الملكيات هذه قد وُضعت بشكل يتناقض مع قرار تحديد الأملاك العمومية (144/ س، 1925). أخيراً، عندما تبيّن أن المشروع "ممكن" و"قانوني"، تبنّى المحافظ الموقف النيوليبرالي الذي تتميّز به الحكومات المحلية الريادية في مجال الأعمال والحريصة على جذب الاستثمارات الخاصة بأي ثمن. ونتيجة لذلك، أغفلت التراخيص التي صدرت مخالفات قانونية فاضحة مثل السماح بمساحات مبنية إضافية واعتبار غياب دراسات الأثر البيئي والاجتماعي الموصى بها قانوناً مسألة غير مهمة.

تبنّى المحافظ الموقف النيوليبرالي وأغفل المخالفات القانونية الفاضحة


أي نقاش بديل وبنّاء حول المنشآت على ساحل المدينة، يجب أن يبدأ بقيام المجلس البلدي بوضع خطة شاملة بشأن الواجهة البحرية، وسبل تحقيقها، وما هو الدور الذي ينبغي للمجلس أن يلعبه في تنمية المدينة. يجب على المجلس أن يراعي تطلعات ناخبيه (وسكان المدينة بشكل عام) وتوقعاتهم الفعلية، والإجابة عن عدد من الأسئلة. هل شاطئ البحر الأبيض المتوسط هو من حق أصحاب الملايين فقط؟ هل يجب أن يتحوّل إلى مجموعة من المنتجعات التي يديرها القطاع الخاص والتي تستهدف السياح الأثرياء في البلد وربما من الخارج؟ هل ينبغي اعتباره فرصة اقتصادية لتكديس رؤوس الأموال لحفنة من المستثمرين الذين يوظفون بضع مئات من ناخبي المجلس لتنظيف الطاولات ومسح الأرضيات؟
لا شكّ في أن أغلب سكان بيروت يطمحون إلى واجهة بحرية مفتوحة على مدى النظر. ويتجلى ذلك في ممارساتهم، حيث أنّ عدداً كبيراً من سكان المدينة يزورون الشاطئ بانتظام ويستمتعون به على الرغم من حالات الإغلاق والتجهيزات العامة الضئيلة. وعليه، يتعيّن على المجلس البلدي ورئيسه أن يعملا جاهدين لتحقيق هذه الحاجة. كيف السبيل لذلك؟
لنعترف أولاً بحقيقة جلية، وهي أنّ القوانين من صنع الإنسان. في أي سياق ديمقراطي (مهما كان ناقصاً)، لا بدّ أن تعكس القوانين على الأقل بعضاً من تطلّعات الأغلبية، وفي هذه الحالة نقصد سكان مدينة بيروت، حيث أن الكثير منهم قد عبّر عن تطلّعاته بأن يكون الشاطئ غير قابل للبناء، ومساحة متاحة للجميع، وهم يؤكدون على ذلك من خلال ممارساتهم اليومية. ولنفترض أيضاً أن على القوانين احترام على الأقل بعضاً من الاتفاقات الدولية التي وقّع عليها لبنان، والتي تعترف بالحق في البيئة كحق من حقوق الإنسان. هذه الاتفاقات هي استعادة لمبادئ القانون الروماني الذي نصّ على مدى آلاف السنين على أن البحر وشواطئه هي مكان "مشترك للبشرية جمعاء [...] بموجب قانون الطبيعة". هذه الأطر القانونية هي نفسها التي تشرع أطر الملكية المشتركة (public trust doctrines) في الولايات المتحدة والنُظم والاتفاقيات البيئية الدولية (التي وقّع لبنان على العديد منها)، وهي أساس للعديد من الحملات والمراسيم الآيلة إلى حماية الواجهات البحرية في جميع أنحاء العالم.
وفي ضوء هذه الافتراضات، يمكن أن نستنتج أن القانون الحالي الذي يعتمده المجلس البلدي ويسمح بخصخصة الشاطئ وإغلاقه يتناقض مع إرادة الأغلبية ومع المبادئ العالمية للحقوق البيئية. وفي هذا السياق، يكمن أن يكون الدور الأساسي للمجلس البلدي في تجميد المشاريع الحالية ومراجعة وتحديث الإطار الإنمائي للشاطئ وفقاً لرؤية سكان المدينة. إذاً ما المطلوب من المجلس البلدي لجعل الواجهة البحرية مساحة متاحة للجميع وتراثاً حضرياً مشتركاً؟ دعونا نختتم ببعض التوصيات:
1. ينبغي على المجلس البلدي (وعلى أساس قانون البناء لعام 2004) أن يضع المنطقة رقم 10 من ساحل بيروت "قيد الدراسة"، مع تجميد فعلي لجميع أنشطة البناء لمدة أقصاها ثلاث سنوات. (وكون المنطقة رقم 9 غير قابلة للبناء، فإن الظروف القانونية مثالية بالفعل في هذه المنطقة ولا ينبغي تغييرها).
2. ينبغي على المجلس البلدي أن يصوغ ويرسل إلى المديرية العامة للتنظيم المدُني النُظم القانونية المنقّحة الخاصة بالمنطقة رقم 10 بهدف الحدّ من جميع أنشطة البناء على طول الساحل، وحماية نظمه البيئية، والاعتراف بقيمته كإرث ثقافي. وينبغي أن ينطوي ذلك على إلغاء جميع الاستثناءات والإعفاءات ومكافآت البناء التي تكثّف عملية البناء على طول ساحل المدينة.
3. ينبغي على المجلس البلدي أن يضع خطة تؤدي إلى تفكيك تدريجي للهيكليات القائمة التي تعيق الوصول إلى الشاطئ وتحجب الرؤية عن البحر على طول ساحل المدينة (يمكن الحصول على المسوحات من وزارة الأشغال العامة).
4. يجب على المجلس البلدي أن يطالب وزارة الأشغال العامة بإعادة رسم الحدود الساحلية وتحديد الأملاك العامة وفقاً لمبادئ الملك العام الصادرة عام 1925، كما عليه أن يضع خطة طويلة المدى لاستعادة كل الممتلكات الخاصة الواقعة ضمن المجال العام البحري بحسب أسعار السوق الحالية المنصفة، باعتبارها أراضي غير قابلة للبناء حيث جميع نسب الاستثمار لاغية.
5. إدراكاً لما تتصف به الواجهة البحرية باعتبارها مصدر اندماج اجتماعي نحن بأمسّ الحاجة إليه، على المجلس أن يضع رؤية شاملة حضرية تراعي طبيعة الساحل، على أن يطور على أساسها عدداً من التصاميم الحضرية (بما في ذلك الرملة البيضاء). وقد ينطوي ذلك على إعادة تصميم الأرصفة لإعطاء الأولوية لأنشطة المشاة كبديل من زحمة السيارات والمواقف، اعتماد أكشاك موحدة ومسارات للدراجات الهوائية للربط بين الشواطئ، توفير المرافق العامة (مثل المراحيض العامة، وسلال النفايات، والإشارات)، وإنارة الطرقات والأرصفة والشواطئ، وتشجيع ممارسة مجموعة متنوعة من الأنشطة الترفيهية النهارية والليلية، بما في ذلك حمامات الشمس والصيد والسباحة والركض وغيرها من النشاطات الرياضية.
6. ینبغي على المجلس البلدي أن يشرك سكان المدينة في مباريات مفتوحة، ومناقشات عامة، ونظم تخطیط تشارکیة تحوّلهم إلى شرکاء في تصمیم الواجهة البحریة كمستخدمین ومؤتمنين في آن.
7. ينبغي على المجلس البلدي أن يشجّع وينظّم الممارسات التجارية الثابتة والجوالة على جانبي الكورنيش، مع وضع مخطط لتعزيز وتطوير الساحل ليكون محركاً لإعادة توزيع النمو.
8. على المدى الطويل، على المجلس البلدي أن يدرس قابلية وصول باقي سكان المدينة إلى الشاطئ، مع تصميم المسارات ونقاط التواصل بين المشاة وهواة الدراجات الهوائية، مما يجعل من الشاطئ نقطة تواصل محورية للعديد من المسارات العملية داخل المدينة.

* دكتورة في التخطيط العمراني في الجامعة الأميركية في بيروت وباحثة مشاركة في المركز اللبناني للدراسات