تخترق سيّارة المرسيدس السوداء شوارع طهران المزدحمة على مهل. التطريز الذهبي يُثقِلُ العلم اللبناني الصغير المرتفع على مقدّمتها، فيكاد لا يهتزّ أمام هواء العاصمة الإيرانية البارد.
تلقي المدينة سحراً دائماً على نظرات الرئيس نبيه برّي، وهو يتلفّت يميناً ويساراً من الشباك الأيمن السميك، ملاحظاً التفاصيل الصغيرة المتغيّرة منذ زيارته الأخيرة. يترجّل رئيس المجلس النيابي من سيارة «التشريفات» على مدخل فندق «أزادي» شمال طهران، والشال الرمادي يطوّق عنقه، وقبل أن يدخل البهو الوسيع يعاين لوهلةٍ الساحة الخارجية كمن يتفقّد بيتاً، لم يغب عنه كثيراً.
في الصّباح، بعد كلمة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنئي، سيلقي رئيس أمل كلمته أمام المؤتمرين في المؤتمر السادس لـ«دعم الانتفاضة الفلسطينية» (الثلاثاء 21 شباط)، رئيساً للاتحاد البرلماني العربي ورئيساً للمجلس النيابي اللبناني. هي الزيّارة الخارجية الأولى له بعد عمليته الأخيرة، لكنّ رحلة قصيرة لطهران ضرورية الآن. لدى برّي ما يقوله حول تطوّرات الأحداث الخطيرة في فلسطين وقرارات حكومة العدوّ الأخيرة، كما أن زيارة إيران تصلح جرعة نقاهة، في ضيافة بلادٍ عزيزة على قلبه.
قبل نحو شهرين، أطلق الخامنئي تصريحاً يهدّد فيه إسرائيل، مؤكّداً أن لإيران قوات على حدود الكيان الشمالية، هي حزب الله وحركة أمل. وفي مرّة سابقة، قال «الولي الفقيه» في معرض ردّه على اتهامات خليجية إن إيران تدعم «الإرهاب الشيعي»، إن إيران «لا تدعم إلّا حركات المقاومة، حركتين شيعيّتين هما أمل وحزب الله، وحركتين سنيتين هما حماس والجهاد الإسلامي».
لا يمكن أن يكون رئيس حركة أمل ضيفاً في طهران. بري من «أهل البيت»، بالمصطلح اللبناني. طبّق الإيرانيون وبرّي المثل القائل بأن «لا صحبة إلّا بعد خلاف». فأمل، هي تركة الإمام المغيّب موسى الصدر الذي قبع في صلب الثورة الإيرانية، واختطافه ورفيقيه يعود بجزءٍ منه إلى دوره في مساعدة الإمام الخميني. حتى إن الرئيس الراحل حافظ الأسد تعرّف إلى الخميني عبر الصّدر. ويكشف نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدّام في مقابلة مع جريدة الشرق الأوسط (عدد 16 أيار 2008) أنه «كانت لدى سوريا علاقات مع عناصر الثورة الإيرانية عبر الصدر، وأن المجموعة المحسوبة على الصدر من إيران كانت تحمل جوازات سفر دبلوماسية سورية». وعدا عن تدريب كوادر من الثورة في معسكرات أمل الأولى في السبعينيات، مثّل طلب الخميني من مصطفى شمران حمل حقيبة الدفاع في حكومة ما بعد الثورة الإيرانية، وهو المسؤول التنظيمي الأوّل في حركة أمل في ذلك الوقت، تعميداً لعلاقة تجانس، لم تقطعها حتى معمودية الدّم. كما أن برّي واكب حركة الثورة منذ بداياتها إلى جانب الصّدر، وكان له دورٌ مهمّ في العلاقة مع كبار رجالات الثورة.

إيران مطمئنة إلى أن ظهر المقاومة محمي في لبنان طالما أن أمل بهذه القوة


الغوص في علاقة أمل وبرّي بالجمهورية الإسلامية مغرٍ ومضنٍ في آن. مغرٍ، لأن محطّات كثيرة من علاقة الحركة بالثورة الإيرانية لا تزال مخبّأة ومحفوظة على الورق وفي الذاكرة، منذ الصّدر ومن بعده برّي، في مرحلة ما بعد اختفاء الإمام ومن ثمّ مرحلة الاقتتال مع حزب الله، فالمصالحة والتحالف الوثيق. ومضنٍ، لأن القيادة الإيرانية وبرّي، وطبعاً حزب الله، مرّوا على «الأيام الصعبة» و«حرب الإخوة»، وكأنها لم تكن، في تعالٍ متبادل عن جراحٍ تكفّل الزمن وسنوات العمل المشترك والمصير الواحد ما بعد «صلحة دمشق» بداية التسعينيات، بمحو آثارها.
مساء اليوم نفسه، وعلى كثرة انشغالهما بأعمال المؤتمر، ضرب الرئيس الإيراني حسن روحاني ورئيس مجلس الشورى علي لاريجاني موعدين منفصلين مع برّي في صباح الأربعاء. لم يتوانَ المسؤولان الرفيعان في الإعلان عن تقدير دور رئيس المجلس النيابي في «حماية الاستقرار اللبناني»، ولم يتوانَ برّي، في السّؤال عن إمكانية إجراء مصالحة بين إيران والسعودية، تضع حدّاً لـ«الفتنة المذهبية»، و«تؤسس لمواجهة المتغيّرات خلال المرحلة المقبلة في المنطقة».
ودور «حماية الاستقرار اللبناني»، لا يبدو مصطلحاً رنّاناً يطلقه الإيرانيون للإطراء على مسامع برّي فحسب. على مدى السنوات الماضية، تحوّل التمايز بين الرؤية الإيرانية للساحة اللبنانية وبرّي، من عامل تنافر وتقاتل في نهاية الثمانينيات، إلى عامل تقارب وتكامل، في إطار مقاومة إسرائيل على الساحة اللبنانية. وسبق أن سمع برّي كلاماً كبيراً من الإمام الخامئني حتى في الإطار العسكري، حافظت الحركة على دورٍ محدود في مقاتلة العدو الإسرائيلي بعقلانية وواقعية تتماهى مع القدرات، مقارنةً بقدرات حزب الله. لكنّ هذا الدور يشير إلى وجود النيّة والاستعداد الدائم للعودة إلى الواجهة، متى تطلّب الظرف ذلك.
في العام الأخير، شكّل احتفال 31 آب في صور، ومن ثمّ ذكرى عاشوراء، مناسبةً لتثبيت مكانة أمل لدى الجمهورية الإسلامية. مسؤولون بارزون في الحرس الثوري الإيراني أبلغوا ممثلي أمل في طهران رسالةً إلى برّي، فحواها أن «إيران مطمئنة إلى أن ظهر المقاومة محمي في لبنان طالما أن أمل بهذه القوّة».
وقوّة برّي بالنسبة إلى إيران ليست في المظلة العسكرية والشعبية والسياسية التي يوفّرها دوره ودور أمل في لبنان للمقاومة، بل تكمن في كونه حليفاً مع خصوصية. فحتى التمايز الشكلي مع الرؤية الإيرانية لملفّات لبنان والمنطقة، لا يمكن أن يبديها حزب الله، الذي يعتزّ بأنه جزءٌ من منظومة الثورة الإيرانية، فيما يملك برّي بشخصيته هامش مناورة ومساحة اتصال أوسع تتطلبهما السياسة، ويحتاج إليهما المعسكران المتقاتلان في المنطقة، في أي لحظة التقاء في لبنان. وحين يراقب المسؤولون الإيرانيون تجارب الشيعة العرب والعراقيين، يُسجَّل لبرّي أفضل التجارب السياسية، رئيساً لتنظيم شيعي عربي ورئيساً للمجلس النيابي اللبناني.
يعود رئيس المجلس النيابي من يومه الثاني في المؤتمر، ومن لقائه روحاني ولاريجاني، مبدياً إعجابه بطمأنينة الإيرانيين. وفي الصّباح، يحين موعد العودة إلى جدول الأعمال المزدحم في بيروت. إنه مطار مهرأباد مجدّداً، حيث حطّت أوّل طائرة بعد الثورة الإسلامية، وعلى متنها الشاب نبيه برّي.