قبل 25 عاماً، لم تكن صورة حزب الله في أذهان أكثر الناس، في الداخل والخارج، إلا كأحد أكثر الأحزاب الإسلاميّة راديكاليّة في العالم. صورة تشدّد نمطيّة رسّختها الدعاية الدوليّة، وكذلك رسّخها الحزب بنفسه، عن نفسه، فلم يُنكرها «تُهمة»... وإن اختلفت المقاصد والأدبيّات. آنذاك (3 تموز 1992) عقد الأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله مؤتمراً صحفيّاً، أعلن فيه قرار الحزب المشاركة في الانتخابات النيابيّة. كانت تلك أوّل انتخابات تُجرى بعد الحرب الأهليّة اللبنانيّة.
لم يكن قراراً عابراً، بل «محطّة بارزة» (ومِن نوع خاص جدّاً) في تاريخ حزب الله، على حد تعبير نائب الأمين العام في الحزب الشيخ نعيم قاسم في كتابه الصادر عام 2002 (حزب الله: المنهج - التجربة - المستقبل). قبل تلك الانتخابات، كان الحزب نظريّاً وعمليّاً، وما زال نظريّاً، لا يرى إلا «الدولة الإسلاميّة» كنموذج «كمال» لنظام الحُكم، بل النموذج الأوحد وفق «الحكم الإلهي» (ومَن لم يَحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). يكتب قاسم عمّا يُشبه «الحيرة» التي عاشتها قيادة الحزب قبل ذلك القرار، فاختارت «الشورى» تكليف لجنة مِن 12 عضواً لحسم الأمر. نقاشات كثيرة حصلت. أبرزها حول «ما مدى مشروعيّة الدخول في مجلس نيابي يُعتبر جزءاً مِن نظام لا يُعبّر عن رؤية الحزب للنظام الأصلح؟». هذه حُلّت، ليأتي نقاش آخر: «هل تُعتبر المشاركة موافقة على واقع النظام السياسي، ما يُرتّب مسؤوليّة في الدفاع عنه وتبنّيه، وتنازل عن الرؤية الإسلاميّة؟». في النهاية، دخل الحزب مجلس النواب. وافق 10 أعضاء مِن تلك اللجنة على ذلك. مَن يعرف عقائدية الحزب، خاصة في تلك الحقبة، يعرف حجم الضغط الهائل على الذات مِن أجل العيش في بلد «متعدد» بسلام. بين تلك الحقبة ويومنا «ملحمة» تعديلات حصلت في حزب الله. على مستوى العقيدة، الحزب هو نفسه، أمّا على مستوى الخطاب فلا مبالغة إن قيل إنّ ذاك كان حزباً آخر. هذا الحزب يتطوّر. هذه تُسجّل له لا عليه. تطوّر على نحو شبه «أسطوري». إنّه اليوم رافعة مطلب إقرار نظام النسبيّة في القانون الانتخابي المرتقب. يحمل هذه القضيّة على كتفيه، وهي، بمعرفة الجميع، لا تصبّ في مصلحته على مستوى حصد المقاعد النيابيّة. هكذا، يذهب حزب الله، الحزب الديني الأيديولوجي الإسلامي، بعيداً جدّاً في «العدالة». يُزايد في هذا على بعض أعرق الأنظمة الديمقراطيّة في العالم. عندما نتحدّث عن النسبيّة فالحديث يدور عن أرقى الأنظمة، في النضج السياسي أولاً، فضلاً عن أنّه، بداهة، النظام الأكثر عدالة.
ألا يخجل «الآخرون» مِن أنفسهم؟ آه، نتحدّث عن الخجل. هذه قديمة. طيّب، ماذا نقول؟ ألا يقرفون مِن أنفسهم، مثلاً؟ ربما نكون وصلنا إلى نقطة الفراغ في مصطلحات التوصيف المناسبة. وليد جنبلاط مثلاً، ما الذي يَشعر به عندما يرى إصرار حزب الله (الشمولي، كما صدّع رؤوسنا بهذا الوصف على مدى سنوات) على النسبيّة، فيما هو القارئ النهم، والمثقف (قال)، والذي يهتم بمختلف أنواع الفنون التشكيليّة والتكعيبيّة «والتجليطيّة»... كيف يشعر وهو يُصرّ على أكثر القوانين الانتخابيّة تخلّفاً وسخافة ورجعيّة (تقدّمي هو بالمناسبة)؟ قانون أكثري أيها «الإشتراكي»! معقول! يا أخي «خذ حجمك الطبيعي» فحسب. حجمك فقط. ماذا نفعل لك إن كان حجمك ضئيلاً يعني؟ ألا تكفي عقود مضت مِن العيش في «البالون المنفوخ»؟ هل نخجل عنك أمام حزب الله؟ ليس الموضوع هنا للإشادة بحزب الله، لكن ما العمل إن كان الصنف الآخر بهذه الصنميّة، بهذا التحجّر، بهذه القروسطيّة، بكلّ هذا مع ادعاء العكس، وهنا قمّة الوقاحة. يقول البعض إن حزب الله يؤيّد النسبيّة لأنّها تصب في مصلحته! أيه، وخير إن شاء الله؟ تُريده أن يعمل ضد نفسه حتى يُرضي تفاهتك؟ طبيعي أن يكون كذلك، علماً أنّ المسألة ليست كذلك، بل هي ستفتح على الحزب أبواباً لن تُغلق داخل بيئته، حيث هناك مَن «سيخرق» على الأرجح. السيّد نصر الله قالها بوضوح في خطابه الأخير: «النسبيّة لا تخدم مصالحنا الحزبيّة. عندما يتحدّثون عن المحادل، نحن أيضاً من جماعة المحادل. النسبيّة تعطّل المحادل التي نحن منها، ونحن راضون بذلك، وننادي بذلك، ونقول تعالوا». ما الذي يُمكن أن يُقال أكثر؟
جنبلاط ليس وحده. تيار المستقبل أيضاً، وغيره مِن الذين «يلبدون» على نفاقهم، ينطبق عليهم ذلك «الخجل المفترض». المفترض، على أحسن تقدير. أين «ثورة القرنبيط» وأهازيج ساحة الشهداء وبناء الدولة؟ أين بعض المجتمع المدني؟ أين اختفى الناشطون والناشطات؟ كلّ يُخبر أولاده وأحفاده بما كان موقفه هذه الأيّام. هذه تحديداً للذين ليس لديهم مكان آخر خارج هذه البلاد للعيش فيه. في زمن السرعة لم يعد المرء يحتاج العيش مديداً ليرى العجب. إلى كلّ الآخرين الذين هم ضدّ النسبيّة، مِن الناطقين والصامتين، في مقابل حزب الله... «يا عيب الشوم عليكم».