«إن النظام المصرفي يجب أن يخدم المجتمع وليس العكس»جوزيف ستيغليتز

كان عام 1992 عاماً مفصلياً في تاريخ لبنان. حينها أعلن عن نموذج اقتصادي جديد، وكان "إصلاح" النظام الضريبي أحد أعمدته الاساسية، فوعد لبنان بأن يكون "جنة ضريبية". كان هذا الوعد براقاً وجميلاً في وقت كان فيه اللبنانيون خارجين للتوّ منهكين من الحرب الاهلية، وكانت الليرة اللبنانية قد ذهبت الى الحضيض آخذة معها الطبقة الوسطى هي ودخلها وثروتها.

خفضت الضرائب على الارباح والاجور الى حدها الأقصى الـ10%، فأصبح لبنان بالفعل "جنة ضريبية" قلّ مثيلها في تجارب فترات بعد الحروب، وقل مثيلها بين الدول "العادية"، ما عدا بعض الجزر والمقاطعات هنا وهناك.
لو أن الأمر توقف عند هذا الحد لما وصلنا إلى ما وصلنا اليه اليوم، لكن الجنة ترافقت مع إنفاق حكومي كبير (كان ضرورياً بعد الحرب) وتثبيت للنقد اللبناني (كان ضرورياً بعد موجات التضخم آنذاك، لكن ليس بالصرامة التي اتبعت). هذه التوليفة مجتمعة أدت الى تنامي عجوزات الخزينة وارتفاع الفوائد وتجميد الاجور وتراجع القطاعات الصناعية والزراعية، ما أسّس لديناميكية توزيعية، حيث من ناحية تتراكم وتتكدس الثروات في أيدي القلة، وفي الناحية الأخرى تتكدس ديون الدولة وتنهار البنى التحتية وترزح الأكثرية تحت ثقل كلفة المعيشة والسكن والتعليم والصحة وعدم الأمان في التقاعد. هكذا أرادها "اقتصاد السحر الاسود"، وهناك الآن من يستمر في الدفاع عنه.

الضرائب على أرباح
المصارف والفوائد والريع العقاري وعلى الثروة لن تؤدي إلى تعميق الركود

فما إن تعلن أي حكومة عن إجراءات ضريبية، ولو طفيفة، تطال الارباح والفوائد والريوع حتى تقوم القيامة ولا تقعد من قبل "الهيئات الاقتصادية"، وينضم اليهم بعض السياسيين والاقتصاديين والاعلاميين، ويبدأون برمي القنابل الدخانية حول الهدر والتحصيل الضرائبي و"مزراب" الكهرباء والفساد وضبط الإنفاق والإصلاح الاداري ومعاشات النواب والـ11 مليار دولار، بحيث تلقى على تلك الامور ما يعانيه كل من المالية العامة من عجز ودين، والاقتصاد من سوء توزيع للدخل والثروة، والبنية التحتية من اهتراء وتراجع. وينضم اليهم أحياناً بعض المعارضين الشعبويين لتصوير الوضع وكأن الامر هو" الشعب" من جهة وحفنة من الفاسدين في الجهة الاخرى، ويتحول الامر الى"قطاع خاص منتج" في مواجهة "قطاع عام فاشل ويهدر". وبعد فترة تمر العاصفة وتتراجع الحكومة عن فرض الضرائب على الارباح والريع والفوائد أو تبقيها في حدها الادنى.
بعض الأمور يجب أن تطرح في خضم هذا النقاش الدائر الذي وصل الى حد أن يطرح رئيس جمعية تجار بيروت ما سمّاها "الميثاقية الاقتصادية"، في محاولة لتأجيل كل شيء الى الحكومة المقبلة، في استعمال سيّئ للميثاقية التي انتقلت من "الميثاقية الوطنية" الى "ميثاقية توزيع الحقائب الوزارية"(بعد الحلم بالنفط والغاز!) والآن الى ميثاقية جديدة تحاول تأبيد النظام الاقتصادي القديم البائد.
أولاً، كتب الكثير عن "العملية" التي قام بها مصرف لبنان الذي أعطى فيها المصارف وأصحاب الثروات أرباحاً طائلة، التي هي بمثابة انتقال للثروة من عموم اللبنانيين الى تلك الحفنة من الريعيين. فهذه العملية حاولت أن تعكس تراجع معدل الربح لدى المصارف في السنوات الاخيرة التي لا تزال تحلم بالعودة الى التسعينيات والسنوات الاولى من الألفية الجديدة، حيث كان "عصر المصارف الذهبي". ما فعله المصرف المركزي مؤخراً ليس إلا محاولة للعودة الى هذا العصر، وبالتالي هذه "الصدمة" كان يجب أن تقابل بصدمة إيجابية عبر طرح زيادة الضريبة ليس فقط الى 17 في المائة، بل يجب زيادة هذه الضريبة الى 30 في المائة على الاقل والضريبة على الفوائد الى 20 في المائة. وفي هذا الاطار لا بد من الملاحظة أن رؤوس الاموال المصرفية وغيرها لن تهرب الى أي مكان، فالرأسمال المالي لن يجد مكاناً أفضل من لبنان لتحقيق الارباح والفوائد العالية.
ثانياً، على الرغم من معضلة العجز في قطاع الكهرباء الذي يتقلب حجمه مع أسعار النفط، إلا أنه يقابله فائض في قطاع الاتصالات. فمنذ عام 2000 الى آب 2016 بلغ العجز المتراكم في الكهرباء حوالى 27 الف مليار ليرة، لكن في نفس الفترة فإن قطاع الاتصالات حقق فائضاً بلغ 26.3 ألف مليار، أي إن محصلة الخدمتين العامتين الاساسيتين في 17 عاماً بلغت عجزاً مقداره أقل من 500 مليون دولار، أي 30 مليون دولار فقط في السنة!!! ومن المرجّح عند صدور الارقام من آب الى الآن أن يتبخر حتى هذا العجز الضئيل، بل أن يتحول الى فائض في السنة القادمة.
ثالثاً، إن مقولة عدم فرض ضرائب في حالة الركود الاقتصادي التي تسوقها الهيئات الاقتصادية صحيحة في الشكل، وهي في أساس الفكر الاقتصادي الكينزي الذي يؤمن بتدخل الدولة في الاقتصاد. ولكن من الغريب أن يتحول الرأسماليون، ومن بينهم رأسماليّونا اللبنانيون، الى كينزيين "غبّ الطلب" عندما تتهدد مصالحهم. فهم في أميركا فعلوا ذلك بعد الازمة الرأسمالية الأخيرة عندما توسلوا (حرفياً) الاحتياطي الفدرالي ووزارة الخزانة للتدخل لإنقاذهم، بعد عقود من رفضهم للدولة والاستهزاء بها. أما في المضمون، فإن الضرائب على أرباح المصارف والفوائد والريع العقاري وعلى الثروة، إن وضعت في لبنان، فلن تؤدي الى تعميق الركود، لأن كل هذه المداخيل والثروة لا تتحول الى الاستهلاك والاستثمار الحقيقي، بل تبقى وتتكدس من دون دخولها في الدورة الاقتصادية. لكن على العكس، فإن فرض الضرائب عليها واستعمال الواردات للاستثمار العام سيؤديان الى تفعيل الاقتصاد ونموّه.
رابعاً، إن مداخيل "الاقتصاد الخارجي" يجب ألا تكون فقط لتغطية العجز التجاري، بل يجب أن تكون أيضاً خاضعة للضريبة. إن الاقتصاد اللبناني لم يعد اقتصاداً يمكن حصر متغيراته ضمن الحدود الجغرافية، بسبب الهجرة الكثيفة للعمالة الى الخارج (ثلث القوى العاملة).
لكل هذا، على الحكومة الاولى للعهد الجديد، الذي شكل أملاً بالنسبة إلى الكثيرين، أن تضع الهجمات الكثيفة لقوى اليمين الاقتصادي جانباً، وأن تشرع في تغيير النظام الضريبي جذرياً، لأن من دونه ستحبط كل محاولات العهد بالاصلاح والتغيير، وإلا عليها التنحّي، لأن التغيير لن يتم بأدوات النظام القديم أبداً.