«من يملكُ الرأسمال سيستفيد من الروبوتات والذكاء الاصطناعي التي سوف تؤدي حتماً إلى استبدال الوظائف»دافيد روتمان

في الآونة الأخيرة، بدأ يخيّم شبح البطالة التكنولوجية على الولايات المتحدة الأميركية، حيث من المتوقع أن تستبدل الروبوتات والآلات الذكية الكثير من الوظائف، حتى تلك التي يقوم بها العمال المهرة في الكثير من القطاعات الصناعية والخدماتية، مثل المحاسبة والاستشارات المالية وغيرها.

وإحدى المفارقات لسياسة ترامب في منع الهجرة المكسيكية هي البدء باستبدال العمالة الزراعية المهاجرة بروبوتات لقطاف الفواكه وغيرها من أعمال الزراعة والحصاد، كما ذكر تقرير اقتصادي في الأسبوع الماضي. يأتي هذا الحدث، الهامشي نسبياً، في إطار تحدّ أكبر وأخطر لسياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي وعد العمال الأميركيين بإعادتهم إلى وظائفهم التي خسروها في موجة العولمة وانتقال الرأسمال الصناعي الأميركي الى أميركا اللاتينية وآسيا منذ ثمانينيات القرن الماضي، إذ إن هذا التحدي سيلقي بظلاله بشكل مستمر وقوي على ما يمكن القول إنه المدماك الأساسي في حملة ترامب، ألا وهو سياسة "رأسمالية قومية" معادية للعولمة والذي استمال فيها قطاعات واسعة من الطبقة العاملة الأميركية.
في مقال في Tech Republic نقل عن سوزان شنايدر، وهي أستاذة مشاركة في الفلسفة في جامعة كونيتيكت، قولها "إن ترامب بالتأكيد لا يستطيع أن يتجاهل البطالة التكنولوجية، كما أن قاعدته ستكون عرضة لذلك." وأيد هذا الرأي تقرير لـ CNN قال "إن فوز دونالد ترامب هو دعوة إلى الاستيقاظ من الناخبين الغاضبين من النظام الذي جعل وظائف الطبقة الوسطى مهددة"، ثم أضاف "ولكن حتى إذا عادت هذه الوظائف، فإنها قد تتلاشى بسرعة في موجة من الأتمتة".
بالطبع، هذه ليست المرة الأولى التي تهدد فيها البطالة التكنولوجية الاقتصادات الرأسمالية. فالموجة الأولى من الاستبدال قضت على وظائف منخفضة المهارة في التصنيع، وعلى الرغم من التحسن الناتج من ارتفاع فرص العمل في قطاعات الخدمات، إلا أن أكثر هذه الوظائف الجديدة كانت تتمتع بأجور أقل من سابقاتها الصناعية، بالإضافة الى فقدان الأمان والاستقرار الوظيفي. إن الموجة الثانية التي نشهدها اليوم تضرب بشكل كبير أيضاً الموظفين ذوي المهارات العالية حتى في القطاعات الخدماتية، إذ إننا الآن أمام تهديد كبير لوظائف ذوي الياقات البيضاء وإن حجم فرص العمل التي سيخلقها التقدم التكنولوجي في هذه الموجة من المرجح أن يكون أقل من تلك التي سوف تدمرها الأتمتة، كما بيّن إريك بريانيولفسون وأندرو مكافي من جامعة MIT في كتابهما "العصر الثاني للآلة".
إذاً، أمام إدارة ترامب معضلة كبيرة من حيث بروز التناقض بين حاجة الرأسمال للأتمتة من أجل خفض الأكلاف وزيادة الإنتاجية، وبين مشروعه السياسي. فهل سيعمل على وقف الأتمتة لأسباب سياسية؟ هذا الأمر ممكن، وقد أشار إليه تقرير معهد أبحاث نومورا في اليابان الذي نشر في عام 2015 والذي خمّن أن الروبوتات يمكن أن تحل محل نصف الوظائف في اليابان بحلول عام 2035، وأضاف التقرير إن العائق الوحيد لهذا الاستبدال هو "اجتماعي"، بمعنى أن المجتمع يمكن أن يتخذ القرار بكبح جماح هذا الاستبدال، كما أشار رئيس قسم الأبحاث في المعهد إلى أن "هذه الحسابات لا تأخذ في الاعتبار العوامل الاجتماعية". وأيضاً في نداء، وقّعه العديد من التقنيين والاقتصاديين والمستثمرين، من بينهم بريانيولفسون ومكافي، دعا هؤلاء إلى "مجموعة من التغييرات في السياسات العامة" التي من شأنها أن تساعد في استيعاب التكنولوجيا الجديدة مع أقل الأضرار الاقتصادية والاجتماعية. ولكن كل هذا يتطلب أن تقف الإدارة الأميركية بوجه منطق الرأسمال، خالقة بذلك عائقاً سياسياً أمام تطور القوى المنتجة. إن الماركسية تعلّمنا أن ذلك غير ممكن، فتقدم قوى الإنتاج هو المحرك الأساسي للتقدم الاقتصادي وإن أي إعاقة لها من قبل علاقات الإنتاج أو في الإطار الحالي "القوة السياسية" ما هو إلا عابر، وسيؤدي عاجلاً أو آجلاً الى انحلال هذه العلاقات أو القوى المعيقة.
أمر آخر يحدث حالياً، وقد يجعل من إدارة ترامب مؤيدة للأتمتة، إذ إن الأتمتة لديها قوة كامنة للانتقال بشكل واسع الى الصناعات الحربية. في مقالته "صعود الروبوتات القاتل، ولماذا نحن بحاجة إلى وقفها"، بيّن توبي والش كيف أن الروبوتات ــ الجنود سيصبحون جنود المستقبل. وقد دفعت هذه الإمكانية الى إطلاق حملة عالمية ضدها والتي نوقشت في اجتماعات دافوس في عام 2015. في هذا الإطار، فإن عسكرة التكنولوجيا الروبوتية يمكن أن ينظر إليها من قبل إدارته باعتبارها عنصراً داعماً لسياسته الرامية إلى جعل "أميركا عظيمة مرة أخرى"، والتي ستنحدر الى إمبريالية عسكريتارية بدأت بوادرها سريعاً في الظهور.
إذا أردنا أن نراهن على ما سيحدث في المستقبل، أو اختيار أي طريق ستأخذه الإدارة الأميركية التي بدأت بشعارات شعبوية يمينية مقيتة، فمن المرجح أن الرئيس الأميركي سينسى الجذور الاجتماعية للانتصار وأنه سوف يتخلى عن سياسة توليد العمالة المحلية. فبوادر هذا التخلي عن قاعدته الاجتماعية بدأت تباشيرها تظهر مع تعيينه مسؤولين من القطاع المالي أو وول ستريت في مواقع أساسية في إدارته، ما يشير الى أن إدارة ترامب لن تترك فقط المجال مفتوحاً للروبوتات، بل لزيادة سلطة القطاع المالي على الاقتصاد الأميركي.
إن الرهان اليوم هو أن هذه الشعبوية ستفقد زخمها وسيتبيّن أكثر وأكثر أنها أتت فقط لتمنع صعود اليسار في الولايات المتحدة الذي مثلته حملة بيرني ساندرز، وأن منطق الرأسمال والملكية الخاصة سيدفعها لتتحول الى فاشية جديدة مبنية على اقتصاد مالي ــ روبوتي تفقد الطبقات الوسطى والعاملة فيه ما تبقى من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، التي حازتها في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي كانت تعتبر "العصر الذهبي" للرأسمالية الأميركية. هذا العصر الذي قضت عليه السياسات الاقتصادية اليمينية وفشل العولمة ووعودها بالرفاه الاقتصادي للجميع، فاتحة بذلك الآفاق لعصر رأسمالي قاتم.