في 8 تشرين الثاني 2016، أصدر حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، التعميم رقم 437، الذي يفرض على المصارف الفصل بين نشاطاتها الاستثمارية ونشاطاتها التجارية. أخضع هذا التعميم النشاطات الاستثمارية لرقابة هيئة الأسواق المالية وألزمت المصارف بأن تقوم بهذه العمليات عبر مصارف متخصّصة (استثمارية) أو عبر شركات وساطة مالية، وتركت مراقبة العمليات المصرفية التقليدية خاضعة لرقابة لجنة الرقابة على المصارف.
هذا الفصل أثار استهجان بعض المصارف، ولا سيما المصارف الصغيرة والمتوسطة، التي ترى أن السوق ليست جاهزة لمثل هذا الفصل، وأن التعميم يمنح المصارف الكبيرة موقعاً متقدّماً لأن غالبيتها تملك مصارف استثمارية أو شركات وساطة مالية ما يرفع قدرتها التنافسية.

محظورات التعميم

يحظّر التعميم 437 على المصارف غير المتخصصة (التجارية) والمؤسسات المالية أن تقوم لحساب عملائها بالعمليات على الأدوات والمنتجات المالية إلا بواسطة المصارف المتخصصة. ويفرض على المصارف المتخصصة التي «تقوم لحساب عملائها، بإصدار أو شراء أو بيع أو ترويج الأدوات المالية، أو التداول بالأدوات المالية المطروحة مباشرة للاكتتاب العام أو التي يتم شراؤها أو بيعها لحساب الجمهور، والتي تقوم بالتداول بالأدوات المالية والحقوق المالية المدرجة أو المتداولة في الأسواق المالية المنظمة وبتلك المرخصة من هيئة الأسواق المالية، بما فيها الأسهم وحقوق الخيار والعقود المستقبلية والأدوات المالية المشتقة أو المركبة والأدوات والحقوق المرتبطة بالعملات والسلع والمعادن، أن تتقيد بما يلي: فتح حسابات لديها مخصصة للعمليات المبينة أعلاه تكون خاضعة لرقابة هيئة الأسواق المالية، واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة لتأمين ممارسة هذه الرقابة». وأضاف التعميم أنه على هيئة الأسواق المالية أن تتأكّد من أن العمليات التي تقوم بها المصارف المتخصصة لحسابها الخاص تُنفذ وفق الأسعار الرائجة في الأسواق المالية «وكل ذلك باستثناء العمليات التي تقوم بها مع مصرف لبنان».
باختصار، ما قام به مصرف لبنان هو فصل الرقابة على النشاطات التجارية للمصارف عن النشاطات الاستثمارية. هذه الاخيرة يجب أن تنفذ بواسطة مصارف متخصصة أو شركات وساطة مالية وتكون الرقابة عليها من اختصاص هيئة الأسواق المالية، فيما تبقى الرقابة على النشاطات التجارية من اختصاص لجنة الرقابة على المصارف.

لا يمكن لهيئة الأسواق المالية الولوج إلى الحسابات المصرفية


يكمن الفرق بين النشاطات الاستثمارية والنشاطات التجارية في طبيعة العمليات؛ النشاطات الاستثمارية متعلقة بعمليات شراء أو إصدار أو بيع أو ترويج أسهم وسندات لحساب الزبائن أو لحساب المصرف سواء كان الهدف هو الاستثمار على المدى الطويل، أو المضاربة التي تتم على المدى القصير... أما النشاطات التجارية للمصارف فهي تشمل عمليات التسليف والإقراض وفتح الاعتمادات وإصدار الكفالات المصرفية ونشاطات مشابهة.

حسابات البنك المركزي

بالنسبة إلى مصرف لبنان، إن إصدار هذا التعميم يهدف إلى تمكين هيئة الأسواق المالية من مراقبة العمليات على الأسهم والسندات التي تقوم بها المصارف، إذ لم تكن الرقابة متاحة قبل هذا التعميم لأن هذه الحسابات المصرفية وتفاصيلها مشمولة بقانون السرية المصرفية، وبالتالي لا يمكن لهيئة الأسواق المالية الولوج إلى التفاصيل والتدقيق فيها. وبحسب قانون إنشاء الهيئة، فإن صلاحيات وحدة الرقابة على الأسواق المالية لا تنص على اختصاص الولوج إلى الحسابات المصرفية، ما أوجب فصل هذا النوع من النشاطات وعدم إخضاعها لقانون السرية المصرفية.
ورغم أهمية التعميم، إلا أن مفاعيله على المصارف مختلفة. فهناك مصارف أسّست منذ سنوات مصارف استثمارية أو شركات وساطة مالية وحوّلت إليها كل الأعمال المتعلقة بتجارة السندات والأسهم وإدارة المحافظ، وبالتالي لا يرتّب التعميم أي أكلاف إضافية عليها خلافاً لما هو الأمر بالنسبة إلى العدد الأكبر من المصارف الصغيرة والمتوسطة.

الخيارات المطروحة

وفق لوائح جمعية مصارف لبنان، فإن عدد المصارف المتخصصة المسموح لها العمل في تجارة الأدوات المالية يبلغ 16 مصرفاً بينها خمسة مصارف مستقلّة و11 مصرفاً مملوكاً من المصارف التجارية الكبرى. أما بالنسبة إلى شركات الوساطة المالية الموافق عليها من قبل هيئة الأسواق المالية، فعددها يبلغ 13 شركة مملوكة من أفراد قد يكون بعضهم مساهماً في المصارف.
هذا يعني أن المصارف الباقية والبالغ عددها 41 مصرفاً ستكون مجبرة على خيارات ترتب عليها أعباء إضافية. وبحسب مصرفيين يعملون في هذا المجال، فإن الخيارات المتاحة هي على الشكل الآتي: إنشاء مصرف متخصص (استثماري) أو شركة وساطة مالية، أو التخلّي عن الزبائن لمصلحة مصارف أخرى. الخيار الأول، يرتب كلفة تخصيص رأسمال لإنشاء أي من الاثنين، سواء مصرف استثماري أو شركة وساطة مالية، ويتضمن الأمر هيكلية إدارية بما فيها مجلس إدارة ومدير عام ولجان ومديرين وموظفين، وتركيب نظام معلوماتية ونظام إداري... كل هذه الكلفة، في رأي هؤلاء المصرفيين ليست مبرّرة في سياق التعميم، بل على العكس، يرى هؤلاء أن الفصل بين النشاطات الاستثمارية والنشاطات التجارية هو أمر حتمي، لكن السوق اللبنانية ليست جاهزة الآن، إذ أن غالبية تجارة الأدوات المالية المصدرة في لبنان تتم خارج ردهة بورصة بيروت وتمرّ عبر شركات معروفة جيداً من قبل مصرف لبنان.
أما التخلّي عن الزبائن، فهو أمر غير مقبول، فالمصارف التجارية ستكون مجبرة على فتح حسابات لزبائنها في مصارف متخصصة أو في شركات وساطة مالية، وبالتالي ستفرض عليها هذه الأخيرة تقاسم الأرباح من العمليات المجراة لحساب الزبائن، علماً بأن غالبية الزبائن يفضّلون أن يعملوا مع جهة مستقلة وليست لديهم الثقة الكافية للعمل مع طرف ثالث. ويسأل بعض المصرفيين عن أسباب استبعاد المؤسسات المالية التي يكون من صلب عملها تجارة الأدوات المالية.




محفظة بـ25 مليار دولار

تشير إحصاءات Bilanbanques إلى أن حجم محفظة الأصول المدارة من قبل المصارف (على أساس مجمّع يشمل الفروع المصرفية في لبنان وفي الخارج) بلغ في عام 2015 نحو 23 مليار دولار، وتضاف إليه حسابات ائتمانية بقيمة ملياري دولار، ليصبح مجموع المحفظة 25 مليار دولار. هذا المبلغ يمثّل محفظة تجارة الأدوات المالية لدى المصارف، لكن حصّة لبنان من تداول هذا المبلغ تعد ضئيلة جداً، إذ أن الطلب في غالبيته مركّز على الأسهم والسندات الأوروبية والأميركية والصناديق الاستثمارية في الخارج. ولا يدخل في هذا الحساب محفظة سندات الخزينة وسندات اليوروبوندز المصدرة محلياً والتي يتم تداولها من خارج ردهة البورصة أيضاً.