مَن لم يَسخر بعد مِن تعيين جان أوغاسبيان، الرجل، وزيراً لشؤون المرأة في لبنان؟ مفردة الرجل هنا تأتي قبالة المرأة، لغويّاً، وإلا فإنّ مفردة "الذكَر" تستوجب أن يُقال وزارة شؤون "الأنثى". هذا بحث آخر. المُهم، الساخرون والساخرات، مِن بين الناشطين والناشطات، فضلاً عن "التابعين" لهم، كانوا كثراً في لبنان. حجّتهم العميقة، غالباً، أنّ أوغاسبيان يَملك "قضيباً". نوعه الجنسي بيولوجيّاً.
هذه هي الأزمة. لن تجد حجّة أعمق. يَفترضون أنّ بداهة المسألة تكفي شرحاً. بالتأكيد، لا تعميم هنا، إنّما مدار الحديث عن كثرة وازنة. هذا في الداخل، أمّا في الخارج، فقد فعلتها صحيفة "غاردين" البريطانيّة، بنقد مبطّن، وكذلك "إندبندنت" وغيرها. وكما العادة، ستبدو وسائل الإعلام الغربيّة أكثر ذكاء مِن التورّط في إطلاق الأحكام، لذا اعتمدت، في تقاريرها، على "شكاوى" لبنانيّة. يُسجّل أنّ قمّة مشهديّات "الهبل" جاءت مِن قناة "العربيّة" السعوديّة. فضائيّة "طويل العمر" تستغرب أمر الحكومة اللبنانيّة، وتكاد تبكي حال المرأة... التي، في بلادهم، يُحرّمون عليها قيادة درّاجة هوائيّة.

ما عانته المرأة، وما زالت، لا يرتبط بالعضو الجنسي لحامل المسؤوليّة، بل في عضو آخر،
بما في الرأس تحديداً

البريطانيّون يعرفون أن وزارة "المساواة" (بين الجنسين) في بلادهم، تولّاها، قبل نحو ثلاث سنوات، رجل اسمه ساجد جافيد (مِن أصل باكستاني). كان هذا في حكومة ديفيد كاميرون السابقة. صحيح، مَن سبقه كنّ نساء، وكذلك مَن تلاه، ولكن تعيينه لم يُحدث "عاصفة". عادي. هذه لم تعد مشكلة عندهم. في النهاية، لكلّ شعب خصوصيّته الثقافيّة وسياقاته التحوليّة. المشكلة في مَن هم عندنا، في بلادنا، إذ لا يَعرفون مَن يتبجّحون في تقليدهم، فيقفزون مِن شاشة إلى أخرى وسؤالهم: "هل يَحصل هذا في العالم إلا عندنا؟". في الواقع يَحصل، وأكثر مما يتصوّرون، ولكننا أمام نخبويّات زائفة، يوارون سطحيتهم وقلّة اطلاعهم بنبرة عالية وخطاب "دوغمائي". خطاب يزعمون مكافحته فيما هم أهله. قديماً قيل، وكم مِن قضيّة عادلة خسِرت بسبب المحامين الفشلة.
كثيراً ما يُقال "كوكب اليابان". تلك البلاد التي يغبطها كثيرون على "نعمة الإنسان" فيها. درجت العادة أن يشغل الشخص الواحد هناك عدّة وزارات في وقت واحد. وزارة "تمكين المرأة" يشغلها، الآن، كاتسونوبو كاتو. إنّه رجل. يشغل أيضاً حقيبة أخرى، تُعبر وزارة دولة، هي "المساواة بين الجنسين". كذلك يشغل وزارة "قضايا الاختطاف" (هذه يبدو أن لبنان سيحتاج إليها قريباً). هكذا، وزير رجل في اليابان، ومع ذلك لم تقم قيامة الناشطين والناشطات هناك. إذاً، خطاب المقارنات الشكليّة ساقط. المسألة في المضمون. المشكلة في مكان آخر. بالمناسبة، لِمَ خبت الأصوات التي ثارت على توزير رجل في وزارة شؤون المرأة عندنا؟ ما عدنا سمعنا شيئاً. حسناً، بعد الخطب العرمرميّة، وبعد عراضات كثير مِن وجوه "المجتمع المدني" في لبنان، حصلت هرولة إلى الوزير أوغاسبيان للجلوس معه. يُروى أن بعض الجمعيّات تُريد أن تلحق نفسها لحجز حصّة مِن مشاريع مستقبليّة متوقّعة. المُهم أن ينالوا ولو "لحسة أصبع". مَن يدري، قد تُصبح الوزارة الجديدة بوابة، أو نافذة، لهبات الجهات الدوليّة "المانحة". العفو منّك "مسيو" جان.
عموماً، في الدنمارك، البلاد التي تتصدّر لائحة الدول "الأكثر سعادة" غالباً، شغل فيها مانو سارين، الرجل، وزارة "المساواة بين الجنسين" مِن عام 2011 إلى عام 2015. سبقته إلى المنصب سبع وزيرات. عند تعيينه، رحّب "الرأي العام" الدنماركي بالأمر. يبدو أن الناس هناك يعون أن ما عانته المرأة، وما زالت، لا يرتبط بالضرورة بالعضو الجنسي لحامل المسؤوليّة، أو لحامل القضيّة عموماً، بل في عضو آخر. الأمر يرتبط بمكان "أعلى". بالرأس تحديداً. بما في الرأس على نحو أكثر دقّة. هل كان مفتعلو الغضبة الحقوقيّة، عندنا، سيرضيهم تعيين المطربة نجوى كرم، مثلاً، وزيرة لشؤون المرأة؟ كرم أنثى، هل مِن شك؟ قطعاً لا. لكن المرأة عندها عليها أن تُركّز في إعداد الطعام وعالم المطبخ؟ ليس الحديث عن كرم لتحديد الموقف مِن آرائها. لكن هل هذا يرضي "النسويّات" الغاضبة (مِن نساء وذكور على حدّ سواء)؟ ماذا لو تمّ توزير الممثّلة نادين نجيم؟ إنّها أنثى فائقة، بحسب معايير الشاشة، إلا أنّ نجيم ترفض أن تُقيم ابنتها علاقة جنسيّة خارج الزواج، بينما لا تُمانع أن يُقيمها ابنها (الذكر) مع فتيات أخريات، فهو "لا شيء يُعيبه" كما أنّه "في النهاية رجل". أمّا الممثّلة نادين الراسي، الناشطة النسويّة سابقاً، إذ تفاءل بها كثيرون مِن المتحمّسين، قبل أن تصدمهم بالقول: "أشرفلي وأنضفلي يكون شخص بحياتي يقدّرني مِن أن أكون مطلّقة". مجدّداً، ليس الاقتباس هنا لمحاكمة القائلة، أو تحديد الموقف مِنها، فهي "بنت بيئتها" وهذا هو أفق معرفتها. القضيّة في أنّها امرأة، مشهورة وناشطة، ولكن هل تنفع أن تكون وزيرة تدافع عن "كرامة" المرأة؟ إنّها ذهنيّة "يقبرني رجّال". ألا يكون اختصار "قضيّة المرأة" في جنس الشخص المسؤول، بدل المضمون، أحد أشكال "التمييز الجندري"... إنّما مِن الباب الخلفي؟
بالمناسبة، قاسم أمين لم يكن "امرأة" عندما كتب "تحرير المرأة". كان رجلاً. أكثر مِن قرن مِن الزمن وعاصفة طرحه لم تهدأ. شغل المنطقة، مِن مصر إلى سائر الدول العربيّة، وهذا كان قبل موجات "النسويّات" والناشطين والناشطات ومختلف أنواع "المنشّطات". سانده في طرحه، آنذاك، رجال مثل سعد زغلول وأحمد لطفي السيّد. النماذج، في هذا الإطار، كثيرة حول العالم. بعض الرجال في الغرب، خاصة منذ منتصف القرن الماضي، زايدوا على كثير مِن النساء في دفاعهم عن "حقوق المرأة". لبنان مختلف؟ بالتأكيد. كلّ بلد هو بلد مختلف. إنّما ليس لهذا علاقة في "منطقيّة" الطرح. ربّما على أحد ما أن ينصح، بمحبّة، القائمين على التيارات النسويّة "الراديكاليّة" بالتخفيف، ولو قليلاً، مِن الغلواء والغرور والضجيج الفارغ. العالم يتغيّر من حولنا. الإنسان، بالنساء والرجال، يُسحَق في كلّ مكان. بعض ردّات الفعل مفهومة، حتماً، مِن قبل نساء تعرّضن للظلم، وما زلن، لا لشيء إلا لمجرّد أنّهن نساء. هذا يُفهم أن يأتي مِن الرأي العام، مِن المقهورات، ومِن المقهورين صدقاً على المقهورات، إنّما أن يكون هذا خطاب مجموعات تدّعي قيادة الرأي العام، بل صنع الرأي العام، فهذا هو العبث بعينه.
عودة إلى النماذج الدوليّة حول وزارة شؤون المرأة. هذه الوزارة التي يختلف اسمها، وأحياناً مهامها، مِن دولة إلى أخرى. نجد في السويد أنّ جينيس أورباك، الرجل، تسلّم وزارة "المساواة بين الجنسين" مِن عام 2004 إلى عام 2006. وإلى نموذج كندا، حيث اعتُبِرت الحكومة التي شُكّلت عام 2015 استثنائيّة، لكونها جاءت للمرّة الأولى مناصفة بين النساء والرجال في عدد الوزارات. 15 وزيرة و15 وزيراً. حكومة مِن 30 وزارة. هناّ لبّ الموضوع. هذا ما يُكافح لأجله. حضور المرأة في الشأن العام. أما الغرق في التفاصيل الشكليّة فلا يُنتج إلا التفاصيل. في كندا وزارة لشؤون المرأة، وهذه، عند تأسيسها، تسلّمها أربعة وزراء رجال على التوالي. لديهم هناك أيضاً وزارة "العائلة والأطفال". هذه يشغلها الآن الوزير جان دوكلو. أما في استراليا، فعندما ولدت وزارة شؤون المرأة، كان الوزير الأول طوني ستريت، ثمّ خلفه ايان ماكفي، ثم جاءت سيّدة. عربيّاً، في تونس، الدولة العربيّة الناضجة حقوقيّاً أكثر مِن محيطها، تسلّم فيها صابر بوعطي وزارة شؤون المرأة عام 2014. في ماليزيا، تسلّم نجيب رزاق "وزارة المرأة" عام 2012. سبقته امرأة وخلفته امرأة. وإلى سريلانكا، حيث وزيرة "المرأة والطفل" الآن هي غاندرني باندارا، التي خلفت الوزير تيسا كارا، وهكذا.
في وسط الضجيج الانفعالي الذي شهدناه الشهر الماضي، إثر تعيين أوغاسبيان وزيراً لشؤون المرأة، ومِن بين التصريحات السطحيّة الكثيرة، ودعوات النزول إلى الشارع وما شاكل، برز رأي لسيّدة لبنانيّة يُمكن التعويل عليه كقاعدة لفهم المسألة ووعيها. رئيسة المجلس النسائي اللبناني المحاميّة إقبال دوغان، القديمة في "الكار" النسوي، قالت: "إنّ استحداث وزارة لشؤون المرأة هو خطوة إيجابيّة، شرط أن يكون على رأسها امرأة أو رجل معنيان بقضايا النساء والدفاع عنها، ما يضع بيدهم إدارة تنفيذيّة، على أن تتطوّر ويصبح لها مركز وهيكليّة وفريق عمل لمتابعة هذه القضايا". هذه هي.