صار لا بد ممّا لا بد منه!الكلام، هنا، موجّه الى رئيس التيار الوطني الحر الرفيق والصديق جبران باسيل على وجه الخصوص، ليس من موقع الخلاف، بل من موقع الشراكة في معركة عمرها سنوات طويلة، وهاجسها الوحيد، والوحيد فقط، هو فتح الطريق أمام إنهاء حالة الظلم الواقعة على غالبية الشعب اللبناني، منذ زمن طويل، سابق لزمن الوصاية السورية، ولاحق على زمن الوصاية السعودية – الاميركية. إنه الهاجس الذي إن أُهمل لمصلحة اعتبارات أخرى، سيصيب العهد الحالي في مقتل!

لم يكن الظلم الذي لحق بالمسيحيين، خلال سنوات ما بعد الحرب الاهلية، ناجماً فقط عن طبيعة السلطة التي قامت لاحقاً. بل هو ناجم عن أخطاء كبيرة، أهمها سلوك القيادة السياسية للمسيحيين خلال سنوات الحرب، ثم استسهال الاستقالة من العمل العام يوم طلب الى المسيحيين مقاطعة الدولة ومؤسساتها بعد مقاطعة الانتخابات. وهو ناجم، أيضاً، عن كون التغيير السياسي الجدي الوحيد عند المسيحيين انحصر في الحالة العونية، التي ظل عنوان الجذب فيها استعادة الدولة لدورها الكامل على المستويات كافة. وهو تغيير لم يشمل بقية القوى، فظل الشارع المسيحي أسير تعبئة طائفية، جعلت القوى المسؤولة عن مأساة المسيحيين واقفة في عرض الطريق، مانعة هي الاخرى توسيع دائرة التغيير، ومستفيدة من كون القوى الاسلامية التي جاءت الى السلطة بعد الحرب، تحولت سريعاً الى قوى معطلة لتغيير واسع يشمل بنية الدولة.
بعد عام 2005، كان التيار الوطني الحر القوة الوحيدة، عند المسيحيين، التي أدارت ظهرها للمصالح الخارجية الكبرى. وعندما وقع التفاهم مع حزب الله، لم يكن الامر جائزة ترضية للحزب الذي كان قبل عام يقف مع خصوم التيار في انتخابات عام 2005. كذلك فإن التفاهم لم يكن مراضاة لحزب لم يقاتل جدياً في السابق لإنصاف العونيين، بل كان خياراً سياسياً وطنياً وإقليمياً، له صلة بما يمثله الحزب على الصعيد المحلي، وبما للمقاومة من دور وتأثير على الصعيد الاقليمي. وبالتالي، فإن نظرة التيار العوني الى حالة المقاومة مثّلت النقلة الأهم في برنامج التيار الوطني، والخطوة الاضافية لوجهة التغيير التي أحدثها التيار في الوجدان المسيحي، وهي الوجهة التي أثبتت السنوات الماضية صحتها.

جعجع يريد حصر التمثيل المسيحي
بثنائية، ثم إقصاء من ليس في صفّه، وهدفه
خلافة عون بحجة أنه المسيحي القوي
المدعوم من أميركا والسعودية

أما بقية القوى المسيحية، من حزب الكتائب الى «القوات اللبنانية» وبقية الاحزاب والقوى والشخصيات المنضوية في تحالف 14 آذار، فقد عادت الى قواعدها سالمة. تلك القواعد التي ترعاها الولايات المتحدة مباشرة، أو من خلال فرنسا والسعودية. ظلت هذه القوى وفيّة لهذا الخط، حتى أصيب الرعاة الخارجيون بأزمات ونكسات. وما التحول الذي ظهر في خطاب هذه القوى ومواقفها إلا تعبير عن الأزمة التي عصفت بالحلف الاقليمي والدولي، وفشل مشروع 14 آذار من أساسه، خصوصاً أن هذه القوى لم تنتفض لاستعادة استقلالية مسيحية، بل بقيت راضية بأن تكون رهينة في أيدي القوى الاسلامية نفسها التي خطفت تمثيلها أيام الوصاية السورية، وخصوصاً تيار الرئيس رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط.
أما ذروة الاحداث التي فرضت تبدلاً في التحالفات، فتتصل بالانتخابات الرئاسية، التي لولا حزب الله ــــ شاء من شاء وأبى من أبى ـــــ لما كان بالإمكان إفشال خطط السعودية والولايات المتحدة وفرنسا الهادفة الى إطاحة العماد ميشال عون. وهو التبدل الذي طال الرئيس سعد الحريري قبل الآخرين، فلم يكن أمام فريق «القوات اللبنانية» إلا الالتحاق بالركب سعياً الى تخفيف الخسائر. أما كل الكلام والضجة القواتية حوله، فهو مناسبة لتعليق من هشام حداد بعد عرضها على كوكب المر تي في!
الذي حصل، عملياً، أن غالبية قوى 14 آذار المسيحية، اقتربت من الرئيس عون بعد انتخابه للحفاظ على حصتها من التمثيل، وهي العارفة بأن الجنرال القوي لن يسمح ببقاء الأمور على ما كانت عليه سابقاً، وهو ما يمكن ملاحظته في كل المفاوضات التي جرت قبل التفاهم بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، أو التي رافقت عملية تأليف الحكومة.
اليوم، يتدافش الجميع حول أي قانون جديد يقرّه البرلمان قبل إجراء الانتخابات النيابية. وما جرى تداوله على أنه مقترح يدافع عنه الوزير باسيل، وتتبنّاه «القوات اللبنانية»، إنما يمثل النقيض لكل الشعارات السابقة، والنقيض الكلي للوجهة التي اختارها التيار الوطني الحر. ذلك أن هدف رفع الظلم عن التمثيل المسيحي، لا يستهدف أبداً، ولا يمكن أن يكون هدفه، إلحاق الظلم بالآخرين، سواء أكانوا مسيحيين أم مسلمين. والمنطق يقول، صراحة، إن الإنصاف الفعلي للمسيحيين يكون من خلال توسيع دائرة العدالة لجميع اللبنانيين. والتيار الوطني يجب أن يكون في موقع الدفاع عن قانون جديد للانتخابات ينصف جميع اللبنانيين، بعيداً عن الحسابات الطائفية الضيقة، وبالتالي، لا مجال ولا مبرر لطرح قانون غير النسبية.
أما السير والدفاع عن قانون يستهدف، عملياً، الاستئثار بالحصة المسيحية، وفق المنطق نفسه الذي كان تستخدمه قوى الاسلام السياسي خلال ربع قرن، فلا يصحان، ولا يمكن أن يكونا محل دعم الناس، خصوصاً الذين يثقون جدياً بأن وجود العماد عون في بعبدا إنما يمثل فرصة جدية لقيام الدولة العادلة.
في الحقيقة، ومن دون كثرة تحليل، يمكن التثبت من أن عقل «القوات اللبنانية» الإقصائي هو الذي يقف خلف هذا القانون وهذا المنطق، ولا علم لنا بأن الوزير باسيل ناشط سري في حزب القوات، لأن ما أراده سمير جعجع من خلال طريقة تشكيل الحكومة، يريد استمراره في الانتخابات النيابية. فهو كان الطرف الاكثر ممانعة لتمثيل مناسب لتيار المردة والوزير سليمان فرنجية. وجعجع قاتل لمنع حصول الحزب السوري القومي الاجتماعي على مقعد مسيحي. وهو الذي رفض تمثيل حزب الكتائب. وهو الذي استغنى عن خدمات كل شخصيات 14 آذار المسيحية في ليلة واحدة.
واليوم، يريد جعجع أموراً كثيرة، منها:
أولاً، القول إن المسيحيين هم من يجب أن يختاروا النواب المسيحيين في المجلس النيابي. وهو، هنا، لا يهتم لأي هوية وطنية جامعة، بل لا يمانع أصلاً في أن يبقى الشيعة والسنّة والدروز أسرى التحالفات الكبيرة القائمة في طوائفهم. ولن ينام الليل من دون عشاء إن لم تتمثل الأقليات في الطوائف الاسلامية. بل كل ما يهمه هو تجميع الصوت المسيحي في صندوقة واحدة.
ثانياً، التفصيل السيّئ في الدوائر بين ما هو خاضع للاقتراع الأكثري أو للاقتراع النسبي، سيتيح لجعجع التلطّي خلف تحالف ــــ لا يهمه إن كان بقيادة التيار الوطني الحر ــــ يحاكي الثنائيات في الطوائف الأخرى، وهدفه التحول الى محدلة أو بوسطة، ومن لا يريد أن يركبها فليتحمل المسؤولية. وهو، في هذه الحالة، معنيّ، بقوة، بخوض معركة إطاحة الوزير سليمان فرنجية في زغرتا، وبالإبقاء على تمثيل بشري والكورة والبترون خاضعاً لحسابات لا تبقي أثراً، لا للحزب القومي ولا حتى لشخصيات كانت حتى وقت قريب حليفة له، من النائب فريد مكاري الى النائب بطرس حرب. وهو يريد الأمر نفسه في المتن وبعبدا وعاليه والشوف، ومستعد لأي تحالف مع أي جهة مسلمة شرط أن تكون المقاعد المسيحية تحت أمره، وبالتالي، لا داعي، في عقل «القوات»، للتفكير في مصير الكتائب أو الأحرار أو الآخرين.
ثالثاً، يريد جعجع تكريس منطق المسيحي القوي لا الرئيس القوي. وهو، هنا، يريد أن يمنحه قانون الانتخاب الجديد فرصة لمضاعفة عدد نواب كتلته، ورهانه الفعلي أن يكون هو المرشح الأفضل والأقوى للرئاسة في الدورة المقبلة. وإذا حصل ذلك، فسنراه مجدداً عند العتبات المقدسة في الرياض وواشنطن.
فهل هذه هي أهداف التيار الوطني الحر؟
هل يسعى التيار الى استبدال هيمنة على الناخب المسيحي بهيمنة أخرى، بحجة الأكثرية؟
هل يدعو التيار، فعلاً، الى تهميش قوى، بالطريقة التي عومل بها هو، نفياً واعتقالاً وإبعاداً عن الدولة ومؤسساتها؟
هل تخلى التيار الوطني عن هويته الوطنية التي تدفعه إلى مساعدة جميع اللبنانيين على استعادة حقّهم في التمثيل، مقابل زعامة مسيحية، موجودة أصلاً؟
ما يجري من نقاش حول قانون الانتخابات يفرض على من بيده الأمر العودة خطوة الى الخلف، وأخذ النفس العميق، من دون أي شعور بخوف أو خشية المترددين، لأن أي خطأ يرتكب سيكون الخطأ القاتل، الذي يعيد الاعتبار، فقط، الى العصبية الطائفية والمذهبية، والتي تنادي الى ملعبها العصبيات الطائفية والمذهبية الأخرى، ما يقود لبنان الى حفلة جنون جديدة.