نشهد في هذه السنوات هجمة غير مسبوقة على هدم المباني التراثية والتاريخية، والمدهش أن قرارات هدم هذه المباني إنما تكون تنفيذاً لأحكامٍ قضائية يبطل بموجبها مجلس شورى الدولة قرارات وزير الثقافة بعدم الموافقة على هدم هذه المباني، ويستند الاجتهاد في إبطال قرار وزير الثقافة إلى نظام الآثار القديم الصادر بموجب قرار المفوض السامي الرقم 166 تاريخ 7/11/1933، وتتجاهل هذه الأحكام قانون الممتلكات الثقافية الرقم 37 تاريخ 16/10/2008 الذي أجاز تطبيق قانون الآثار القديم مع الأخذ بالحسبان أحكام القانون الجديد.
وقد تبين أن القانون الجديد، ولا أن سيما المادة الثانية منه نصّت على أن تشمل الممتلكات الثقافية الأشياء التي سبق تسجيلها أو تصنيفها أو الاعتراف بها أو التي لم يتم ذلك بشأنها بعد والتي تنتمي، على سبيل المثال لا الحصر، إلى الفئات الآتية: (‌أ) الممتلكات غير المنقولة، أي الأماكن والمواقع الأثرية، أو التاريخية، أو العلمية، والمنشآت والمعالم والصروح والمباني أو أجزاء المباني ذات القيمة التراثية، أو التاريخية، أو العلمية، أو الجمالية، أو المعمارية، أو الرمزية، سواء كانت دينية أو مدنية، ومجموعات المباني التقليدية والأحياء التاريخية القائمة في المدن أو في الريف، والمواقع الطبيعية التي أعدها الإنسان أو استعملها وبقايا الحضارات السالفة ذات القيمة الأثنولوجية،... ولا يقتصر ذلك على الآثار والأشياء الشبيهة بها كما هي محددة في القوانين والأنظمة المرعية الإجراء الخاصة بذلك، ولا سيما القانون الخاص بالآثار وتعديلاته.

لا يمكن لأيٍ كان
التذرّع بحقه بهدم هذه المباني متسلّحاً بشعار الحماية الدستورية للملكية



بحسب هذا النص، إن القانون قد أدخل ضمن حمايته الممتلكات المذكورة حتى لو لم تسجّل أو تصنّف أو يعترف بها. وهذه الحماية القانونية لهذه الممتلكات غير المصنفة إنما هي مقررة بقوة النص القانوني لمجرّد أنها ممتلكات ثقافية، لا تستطيع وزارة الثقافة إلغاء الحماية عنها بعدما أصبحت محمية بالقانون. ولا يمكن لأيٍ كان التذرع بحقه بهدم هذه المباني، متسلحاً بشعار الحماية الدستورية للملكية، ذلك أن هناك فارقاً بين حق الملكية وبين حدود أو مدى هذا الحق، فمن يملك عقاراً ملاصقاً للشاطئ أو ضمن حرم المطار أو في منطقة مصنّفة محمية طبيعية، فإن حدود التصرف في ملكه تختلف عمّن يملك عقاراً في منطقة لا يوجد فيها ارتفاقات طبيعية أو قانونية.
لذا، على مجلس شورى الدولة أن يطبق القانون 37/2008 ولا سيما المادة الثانية المذكورة التي تؤمن الحماية لهذه الممتلكات، سواء أقدمت الدولة على اتخاذ التدابير القانونية لتصنيفها أو أغفلت ذلك، لأن هذه الإجراءات ليست هي التي تمنح لهذه الممتلكات الصفة التاريخية أو التراثية أو المعمارية أو الجمالية، وإنما هي تكتسب صفة "الممتلك الثقافي" من طبيعتها وكينونتها لا من قرار إدراجها في سجل، ولهذا وحيث نكون أمام ممتلك ثقافي مسجل أو غير مسجل فإنه يجب أن يكون حتماً محل حماية القضاء.
وما يعزز هذه الوجهة أن مجلس الوزراء المسؤول عن رسم السياسة العامة للدولة وفق المادة 65 من الدستور اتخذ عدة قرارات رامية إلى المحافظة على الأبنية التراثية والتاريخية وتصنيفها ومنع هدمها، وأن هذه القرارات اتخذت لوقف مفاعيل الحملة العمرانية الحديثة التي ترتكز على هاجس الربح والتجارة من دون مراعاةٍ لواقع لبنان التاريخي مهد الحضارات والأديان، بحيث تقدم هذه الفئة على هدم معالم لبنان التراثية والتاريخية ليتحول إلى كتلة بناء صماء لا حياة فيها ولا روح.
ولذلك كان على مجلس شورى الدولة بدل الوقوف بمواجهة مجلس الوزراء وإفشال سياسته الرامية إلى المحافظة على البيئة التراثية والتاريخية، أن يعمد إلى ردّ مراجعات إبطال قرارات وزير الثقافة بعدم الموافقة على هدم الأبنية التراثية والتاريخية بالاستناد إلى قرارات مجلس الوزراء ذات الصلة، وليحصر القضاء حقوق المتضررين بالمطالبة بالتعويض.
*دراسة أعدّت بالتعاون مع الدولية للمعلومات
** أستاذ في الجامعة اللبنانية