«إنك تعلم أن الرأسمالية في ورطة عندما تكون الصين الدولة الرائدة في التجارة الحرة في العالم»آيان بريمر

بعد حوالى ثلاثين عاماً على سيطرتها، تحولت النيوليبرالية التي وعدت شعوب العالم بالحرية وجنة الاسواق الحرة الى حطام يلف الكرة الارضية بحروب ونزاعات وعنف أعمى ولا مساواة اقتصادية وفقدان الامل بغد أفضل.

كان تقرير اوكسفام، الذي صدر الاسبوع الماضي، صارخاً في تبيان درجة عدم المساواة التي وصل اليها العالم. ويكفي عرض رقم يقول إن 8 أشخاص يملكون من الثروة بمقدار ما يملكه نصف سكان العالم، أي 3 مليارات شخص، لنتبين مدى التباعد في الدخل والثروة الذي طبع ونتج من هذه الحقبة!
ففي هذه الفترة شهدت أكثر الدول الرأسمالية المتقدمة، من اميركا الى بريطانيا، تراجعاً عن منحى كان قد تجذر في القرن العشرين، وهو توجه المجتمعات الرأسمالية الى مساواة أكثر أو نوع من "الإخاء الطبقي" الذي يمحي أو يخفف كثيراً الفوارق بين الطبقات والى ارتفاع الضرائب على المداخيل العالية والثروة، إضافة الى توزيع سلع كثيرة، أهمها الصحة والتعليم وغيرهما من قبل الدولة، أي من خارج الاسواق. كل هذا التراجع ابتدأ لأن الطبقة الرأسمالية بدأت تشعر بخطر المساواة والضرائب العالية والاجور العالية والنقابات العمالية والملكية العامة على الرأسمالية نفسها وعلى أرباحها وعلى قدسية الملكية الخاصة. فحصلت الثورة النيوليبرالية المضادة على الكينزية وتدخل الدولة في الاقتصاد، بدءاً من عام 1980.
اليوم يأتي أيضاً وصول دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، كتتويج لهذا الحطام، وفي نفس الوقت ليعلن إقامة حقبة جديدة من "القومية الاقتصادية"، تمتد من الولايات المتحدة الى أوروبا، وتمثل أجنحة الرأسمال التي تحاول بطريقة استباقية كبح جماح صعود اليسار كممثل للطبقات العمالية والمتوسطة، والتي تكمن مصلحتها الحقيقية في تخطي حطام الرأسمالية الى اشتراكية جديدة. هكذا أيضاً اندلعت المعركة بين الرأسمال الذي لا يزال يرى في العولمة مصلحة له وبين الرأسمال الذي يرى فيها أنها بدأت تشكل خطراً على "الرأسمالية القومية"، لأنها أدت الى خسارة كبيرة في الدول الرأسمالية المتقدمة للرأسمال الصغير وللعمال وللطبقة المتوسطة وللصناعة المحلية، ولأنها أدت الى صعود الصين وقوى اقتصادية جديدة بدأت تنافس الرأسمال الاميركي والاوروبي، حتى المتقدم منه، في الصناعات التكنولوجية والسيارات وغيرها. كذلك فإن حركة العمال والهجرة أنتجت ردّ فعل عنصري وصلت إرهاصاته الى جميع فئات المجتمعات الاميركية والاوروبية. ووصولها الى جميع الفئات وعدم اقتصارها على فئة معينة، كان لهما ارتدادات سياسية كبرى. هكذا اجتمعت جميع مكوّنات ظهور فاشية جديدة كما حصل في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في اوروبا.

أن تكون «الطبقة» جزءاً من تحليل دافوس أمر لم يكن يتوقعه أحد

بالفعل، تعيش اوروبا ومعها العالم الخوف من هذه الفاشية الجديدة التي تلعب بمشاعر الناس وغرائزهم بشعبوية يمينية فاضحة. في مؤتمر دافوس الاسبوع الماضي، كان الخوف واضحاً من هذه الحركة الجديدة، لأنها لا تهدد العولمة فقط، بل لأنها أيضاً تضع على المحك العلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية. في تقرير دافوس، الذي ينشر قبل المؤتمر حول المخاطر التي تهدد العالم، حددت ثلاثة منابع تهدد ما سمّاه الديمقراطية الغربية؛ الاول، تأثير التكنولوجيا الجديدة وازدياد عدم المساواة في الدخل والثروة. الثاني، تزايد الانقسامات الاثنية والقيمية في المجتمعات، ما يوفر وقوداً للأحزاب المعادية للانظمة الحالية. والثالث، ظهور ما سمّاه السياسة في زمن "ما بعد الحقيقة"، حيث تنامي دور الشبكات الاعلامية الاجتماعية في تشويه الحقائق واستعمال أو استغلال هذا التشويه من قبل الشعبويين. كذلك يلقي التقرير اللوم على أحزاب الوسط التي راجت في زمن النيوليبرالية حين قال "إن هذه الاحزاب قد تحولت الى الوسط السياسي كما اتبعت أساليب إدارية أو تكنوقراطية في السياسة. وفقدت بذلك علاقاتها مع جماهيرها التقليدية، خصوصاً تلك ذات الاصول الطبقية"!
أن تكون "الطبقة" جزءاً من تحليل دافوس، وأن يأتي الى دافوس أمين عام أكبر حزب شيوعي في العالم ويعلن تأييده للعولمة وتحذيره من الحمائية والقومية الاقتصادية، هو أمر ربما لم يكن يتوقعه أحد. فآخر مرة تكلم فيها ماركسي في دافوس كانت عام 1983 عندما حذر القائد النقابي البريطاني آرثر سكارغيل من قرب نهاية الرأسمالية، ودعا الى إقامة نظام اشتراكي. ما حدث بعد ذلك أن مارغريت ثاتشر باشرت قمعاً لم تشهده بريطانيا سابقاً، وحطمت النقابات البريطانية، ومن ثم انهارت الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وشرق أوروبا. كان ذلك بالأمس، أما اليوم فيأتي خطاب الرئيس الصيني، الحائز شهادة جامعية في الفكر الماركسي كما عرّف عنه على موقع دافوس الالكتروني، في وقت دخلت فيه الرأسمالية في أزمة مستعصية لا أفق للخروج منها في الامد القريب. وتتمثل هذه الازمة في الركود الطويل الأمد الناتج، كما قال الاقتصادي الاميركي روبرت غوردون، من تراجع الانتاجية وهرم السكان وارتفاع الديون العامة وتزايد عدم المساواة الاقتصادية.
في عام 1955 صدرت للروائي البريطاني غراهام غرين قصته الشهيرة "الاميركي الهادئ"، وتنبّأ فيها بمسار وراثة اميركا للدور الكولونيالي لفرنسا في الهند الصينية، وتنبأ بما سيحدث في فيتنام. بعد ثلاثة أعوام صدرت قصة "الاميركي البشع" لكاتبين أميركيين من أصول عسكرية حول دور أميركا هناك، واعتبرت القصة مستوحاة من قصة غرين. اليوم ترك "الاميركي الهادئ" في البيت الابيض منصبه ليأتي ترامب سريعاً الى مركز الاستخبارات الاميركية المركزية ليقول إن أميركا كان يجب أن تستولي على نفط العراق، وختم بالقول "ربما في المرة القادمة"! هكذا تحول رئيس الدولة التي تدّعي حماية القانون وحكمه والدفاع عن الديمقراطية ونشرها في العالم الى فاشي جديد يعيد للعالم الفاشية التي قامت في الكثير من الدول في القرن العشرين بالنهب المباشر لثرواتها وبالإبادة الجماعية لشعوبها. فاليوم أيضاً، في مركز الـCIA، أعلن عن عودة الاميركي البشع.