قد تمرّ زيارة الوفد الفرنسي لرئيس الجمهورية ميشال عون أمس كخبر عادي بالنسبة إلى البعض، إلا أن جمهور «بيت الشعب» الذي وقف يهتف للجنرال عام 1989 لطالما انتظر زيارة «الأوفياء» مجدداً. فمنذ 28 عاماً، زار الوفد قائد الجيش في بعبدا يوم كان محاصراً، للتضامن معه ومع العونيين، أرفقوها بحملات في فرنسا دعماً لحكومة عون بالتزامن مع صدور أغانٍ تؤيد هذه المطالب تحت عنوان «حر» (libre). ويوم أمس، صورة الوفد الفرنسي في بعبدا على رأسه أبرز الوجوه في تاريخ التيار، السفير الفرنسي السابق في لبنان رينيه آلا، أتت لتتوّج لحظة عام 1989، بالطريقة التي لطالما حلموا بها.
زيارة «الوفاء والالتزام والتضامن» كان من المقرر أن تحصل في عام 2005 بناءً على اقتراح النائب سيمون أبي رميا أن يرافق أصدقاء العماد الأوفياء عودته إلى لبنان في الطائرة نفسها التي أتت به إلى مطار بيروت. إلا أن الخطة لم تنجح، واقتصر التمثيل الفرنسي على زوجة وزير الدفاع السابق فريديريك دونيو. وقبيل جلسة انتخاب عون رئيساً للجمهورية، اقترح أبي رميا مجدداً دعوة الوفد إلى حضور الجلسة من دون أن ينجح مرة أخرى لارتباط معظمهم بمواعيد مسبقة... إلى أن جرت الزيارة أمس، رغم عدم تمكن البعض من المجيء لأسباب مختلفة، فمنهم من توفي، ومنهم من تقدم في العمر واستبدل بالزيارة رسالة وجدانية تعبّر عن فرحته بعودة العماد إلى بعبدا. هؤلاء تعرفوا إلى عون في الثمانينيات، وساندوه في تظاهراتهم. وبقوا أوفياء لـ «ديغول لبنان» كما يلقبونه خلال إقامته في باريس حيث تحولت العلاقة من سياسية إلى عائلية.

عودة الوفد الفرنسي نوستالجية لا أكثر. في السياسة، فرنسا خرجت من لبنان ولم تعد


السفير الفرنسي السابق في لبنان رينيه آلا، هو الذي مكث وعون سنة في السفارة الفرنسية، كان شديد التأثر وهو يعود بالتاريخ إلى يوم 13 تشرين 1990 ليشرح بالتفصيل المملّ ما حصل يومها، مؤكداً أنه هو من ألحّ على عون بأن يحضر إلى السفارة للتفاوض. ولم يملّ من إعادة سرد القصة ثلاث مرات على التوالي لثلاثة تلفزيونات مختلفة من منطلق تصحيح الوقائع. انتقل بعدها ليتحدث عن المستقبل بوجود عون في بعبدا ويعبّر عن إعجابه بالأمل الذي تحلى به كل هذه السنين والذي كان يمنحه لمناصريه حتى في أحلك الظروف. عون «مدرسة وأستاذ في الرجاء» بالنسبة لآلا، ويفترض مع وصوله اليوم إلى سدة الرئاسة أن يحقق أحلام اللبنانيين ويكون على مستوى المسؤولية، مع ثقته الكبيرة بأن «القضية» أصبحت بأيادٍ أمينة. هي الأيادي نفسها التي عانقت آلا بشدة أمس ولأكثر من دقيقة من الوقت. فيما عناق أرملة الوزير السابق فرنسوا دونيو انهمر دموعاً، لتكشف أمام عون أنها بكت ثلاث مرات في حياتها: الأولى خلال العشاء الذي جمعها به وبعائلته في أحد ملاجئ قصر بعبدا في عام 1990 عندما أسرّ عون لها بأن الهجوم عليه اقترب ومحاولة القضاء على الحالة التي يمثلها باتت أمراً محسوماً. وروت كيف عانقها مطمئناً: «قضيتي محقة ولا تموت وأعدك بأني سأعود إلى القصر». الثانية عند متابعتها لوقائع يوم 13 تشرين الأول الماضي ومشاهدتها عون أمام حرس الشرف في بعبدا حيث كان يجب أن يكون منذ 28 عاماً. والثالثة أمس عند زيارتها له ولعائلته في القصر، شاكرة إياه على عدم نسيانها ومشاركة مع الوفد فرحتها بهذه الدعوة.
سريعاً تحوّل اللقاء الفرنسي بعون إلى سرد ذكريات. النائب فرنسوا روشبلوان عاد إلى لحظة وصوله إلى لبنان من طريق مطار حالات وإلى غناء اللبنانيين المحتشدين أمام القصر عند رؤيتهم «المارسييز»! كذلك ذكّر روشبلوان عون باستقباله له في بلدته «السان شامون» وأداء الفنانة ماجدة الرومي في «الأولمبيا» بباريس، حيث هتف الجميع بالسيادة والحرية والاستقلال. يومها كانت كلمة للنائب الفرنسي، وعد فيها بأن باريس اليوم ستعود إلى بعبدا من جديد. وروشبلوان كان أحد الرفاق المقربين لعون والمتضامنين الدائمين معه، خصوصاً عندما قررت السلطات الفرنسية سحب الحماية عنه، وهو اليوم يعيش «حلم العودة» على حدّ تعبيره. فأغنية الوداع الفرنسية التي أنشدوها لعون عند تركه قصر بعبدا والتي تقول إن الأمر مجرد وداع وسنلتقي مجدداً، أثبتت صحتها وفقاً لروشبلوان.
المتحدث الرابع والأخير ضمن الوفد كان الكاتب والسفير السابق دانيال روندو، الذي كان قد ألف كتاباً في التسعينيات يروي تجربة عون تحت عناون «chronique du liban rebelle». لكن سرعان ما مُنع الكتاب في لبنان، وسُحبَت النسخ التي كان يترجمها العونيون إلى العربية ويوزعونها. وعوضاً عن سرد الذكريات، اكتفى روندو بلفت نظر عون إلى أهمية وقع كلمتي «أحبك» و»شكراً» باللغة الفرنسية قائلاً: «شكراً على الدعوة ولأنكم لم تنسونا ولم تنسوا من دعم الشعب اللبناني». ووصف روندو الثورة التي جسدها العماد عون «بالأمر النبوي، لأن اللبنانيين لم يكونوا يناضلون من أجلهم فقط، بل من أجلنا أيضاً، ليس فقط من أجل حريتهم، بل من أجل حريتنا أيضاً كما يفعل ذلك اليوم مسيحيو العراق وسوريا». مساءً، حضر الوفد عشاءً أقامه النائب سيمون أبي رميا على شرفهم في جبيل سمّاه عشاء «الوفاء والصداقة».
الوفد الفرنسي عاد إلى بعبدا. هي عودة نوستالجية. ففي السياسة، خرجت باريس من لبنان يوم 13 تشرين 1990، ولم تَعُد حتى اليوم.