منذ توقف العمليات العسكرية في آب 2006، كان لدى اسرائيل، ولا يزال، ما يكفيها من أسباب لشن حرب جديدة ضد المقاومة في لبنان. لكن الفشل في «الحرب الثانية»، ترافق مع تراجع في الجاهزية العسكرية وأزمة ثقة سياسية لدى العدو. وخلص التقييم الاجمالي لنتائج الحرب الى ضرورة البحث عن سبل افضل لمواجهة المقاومة.
كل ذلك أدّى الى هدوء الجبهة العسكرية. وهو هدوء استغلته المقاومة، ساعة بساعة، لاعادة بناء قدراتها بأكبر وأوسع مما كانت قيادة المقاومة تعتقد، الأمر الذي دفع بالعدو الى اعتماد استراتيجية جديدة عنوانها: اعاقة نمو قدرات المقاومة. ومن لا يؤمن بوجود مؤامرات ليس مضطرا لاكمال قراءة هذه المقالة.
الإخفاق في محاصرة المقاومة بعد اغتيال رفيق الحريري وخروج سوريا من لبنان، وفشل عدوان 2006، فرضا على العدو وحلفاءئه في الغرب، كما في العالم العربي، الى استعجال خيارات اخرى، اعتقاداً بأنها توفر الخدمة نفسها، لا بل اكثر. فجرى العمل على تعزيز التيار المعادي للمقاومة في لبنان، وتوفير ما يسمح بقيام انقسام اهلي وسياسي داخلي، يتناغم مع الفتنة المذهبية التي أشعلها الغرب واسرائيل بالتعاون مع السعودية ودول اخرى، في العراق والمنطقة. وكان يؤمل من هذه الخيارات، ليس محاصرة حزب الله فحسب، بل كل التيار الداعم للمقاومة. لكن ما حصل بين ايار 2008 واطاحة حكومة سعد الحريري في 2011، اقفل ــــ من دون اضرار هائلة ــــ باب الفتنة الكاملة في لبنان، وإن ابقى على الانقسام السياسي حاداً، ليصبح اكثر قساوة بعد إندلاع الازمة السورية.

عشر سنوات من الفشل
في مواجهة محورالمقاومة:
من فتن لبنان وسوريا والعراق
إلى حصار إيران وحرب اليمن


على الخط الاقليمي، كان الدعم غير العادي الذي قدمته السعودية، ومعها مخابرات غربية، الى أدوات الفتنة في العراق، قد قطعت شوطاً في تحويل هذا البلد الى مصدر قلق لكل دول محور المقاومة، لا سيما ايران وسوريا ومعهما حزب الله. وبالتزامن، نشطت عملية الاحتواء الاميركية لسوريا، من خلال المسار التركي – القطري، بغية تغيير سلوك النظام وفك تحالفه مع ايران. وجرت محاولات حقيقية لفتح كوة في التحالف بين ايران وسوريا في العراق، عندما حاول الاتراك والقطريون والسعوديون اقناع الرئيس بشار الاسد بدعم وصول رجل اميركا والسعودية اياد علاوي الى رئاسة الحكومة بدلا من نوري المالكي. اما في لبنان، فكانت الذروة محاولة إقناع الاسد بدعم بقاء سعد الحريري في رئاسة الحكومة اللبنانية خلافا لارادة حزب الله.
مع انتهاء هذا كله الى الفشل، لجأ خصوم ايران وسوريا وحزب الله وقوى المقاومة الى حيلة اخرى تقوم على استغلال حالة الغليان الشعبي ضد الانظمة الحاكمة في العالم العربي. فتم خطف احتجاجات اهلية في سوريا، واخذها سريعاً نحو عملية منظمة لتدمير هذا البلد، على امل توجيه ضربة لنظام الاسد بسبب رفضه الاستسلام لضغوط الغرب وجماعته في الاقليم. وسرعان ما تحولت الفتنة الداخلية في سوريا والعراق الى عنصر تعب لايران، ومصدر تهديد رئيسي للمقاومة في لبنان. سيما ان قوى المؤامرة نجحت، الى حد بعيد، في توجيه ضربة قوية لتيار المقاومة، من خلال قيام «الاخوان المسلمين» بنقل ابرز حركات المقاومة الفلسطينية، اي حماس، الى موقع المختلف مع محور ايران ــــ سوريا ــــ حزب الله.
وخلال السنوات الخمس الماضية، لم يترك تحالف الغرب ــــ اسرائيل ــــ السعودية - تركيا، شيئاً لم يفعله لتحقيق هذا الهدف. فجأة، تحوّل تنظيم «القاعدة»، بكل فروعه، الى مركز استقطاب الشباب العربي والمسلم. وجرى اعتماد خيار التطرف والجنون لتدمير دول عربية كثيرة، من مصر وليبيا الى اليمن. لكن الشعار المركزي الذي رفعه هؤلاء في بلاد الشام ظل، على الدوام، تسعير الفتنة مع الشيعة والفرس، بقصد انهاك ايران والعراق وسوريا وحزب الله. ثم جاءت نسخة «داعش» لتتويج الصورة. وهو أمر لم يكن ليكون لولا دعم، ستظهر ادلته اكثر في المرحلة المقبلة، ومن قلب الولايات المتحدة واوروبا على وجه الخصوص.
كان الاعتقاد قوياً لدى العدو، المهتم اصلا بانهاك قوى المقاومة، بأن الازمة السورية ستعني انتهاء عصر الانتصارات بين 2000 و2006. وهو راهن، بقوة، على ان إخراج سوريا من محور المقاومة أو تدميرها وجيشها سيقفل الابواب امام كل نفوذ لتيار المقاومة، وسيقطع سلسلة المقاومة من وسطها. لذلك كان العدو، بالتعاون مع اوروبا والسعودية واميركا وتركيا، في قلب الحرب على الدولة السورية. وتم توفير كل ما تحتاجه المجموعات الارهابية لمنع قيام دولة مستقرة في العراق، وتدمير النظام والدولة في سوريا، ومحاصرة المقاومة في لبنان. وهي مهمة لا تزال مفعّلة منذ نحو ست سنوات. وما استجدّ عليها، رفع مستوى نفوذ السعودية، وذهابها الى حرب مجنونة في اليمن، بغية الامساك ببحر العرب وباب المندب، ووقوف كل ارهابيي العالم الى جانب آل سعود في معركة مستمرة لتدمير هذا البلد وسحق اهله.

النتائج المعاكسة

الدمار الكبير الذي لحق ببنية الدولة والمجتمع في كل من العراق وسوريا واليمن ليس بالامر السهل. لكن نقل هذه الدول الى ضفة المحور الأميركي ــــ الاسرائيلي ــــ السعودي لم يحصل. بل على العكس، ثمة تطورات غير عادية جرت في العامين الماضيين، ادت الى محاصرة هذا المشروع ومنعه من التوسع. وانتقل محور المقاومة، بعد انضمام روسيا الى معركة منع سقوط الشرق بيد الغرب، الى مرحلة الهجوم. وانتهى ذلك الى نتائج مخالفة تماما للتوجه الآخر، منها:
ــــ في لبنان، أدت النتائج السياسية وغير السياسية، خلال العامين الماضيين، الى محاصرة المجموعات الارهابية، ومنعت قيام قاعدة شعبية وسياسية لها في اكثر من منطقة لبنانية. وتوسّع التعاون بين الجيش والمقاومة من ساحة المواجهة مع العدو، الى تعاون مكثف في مواجهة الحالة التكفيرية، ما اضطر قوى سياسية واجهزة امنية لبنانية، على صلة بالغرب والسعودية، الى التراجع والانضمام، ولو مضطرة، الى هذه المعركة.
ــــ في لبنان أيضاً، فشلت محاولة فرض المشروع السياسي لفريق 14 اذار. ومُنعت القوى البارزة فيه من التحكم بالدولة ومرافقها ومؤسساتها. ورغم استقطاب هذا الفريق لرئيس كان يفترض ان يكون على مسافة منها، انتهى الامر الى منع الفريق الاميركي – السعودي من فرض شروطه كافة، وصولا الى انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية، بدعم غير مسبوق من جانب حزب الله، ليدخل لبنان مرحلة انهيار قوى 14 اذار، وتعديل سلوك ابرز قواه، من تيار «المستقبل» الى «القوات اللبنانية» والنائب وليد جنبلاط.
ــــ في العراق، لم يؤد اخراج المالكي من الحكم، بحجة موالاته لايران، الى تغييرات كبيرة. بل اضطر العالم كله الى مواكبة «القرار الشعبي»، المدعوم من ايران وسوريا وحزب الله، بفتح المعركة الحاسمة ضد «داعش». ولمن لا يتذكر، فان سلاح الجو السوري، في عز انشغاله بملاحقة الارهابيين في سوريا، وجّه ضربات قاسية لمجموعات هذا التنظيم الارهابي خلال مرحلة توسعه في الموصل ومحافظات اخرى. اما حزب الله الذي وجه جزءاً من قدراته لمساعدة الجيش السوري، فقد ارسل خبراء وكوادر الى العراق. بينما تولت ايران توفير كل مستلزمات بناء الحشد الشعبي ودعم عملياته.

فشل حصار حزب الله
لبنانياً، وانتُخب مرشحه للرئاسة
وبيده «الفيتو» الضابط
للساحة الداخلية

ــــ في العراق ايضا، اضطر الغرب الى تغيير سياساته. الخشية من خسارة سوريا وتركها لروسيا دفعت بالولايات المتحدة، قبل غيرها، الى ادخال تعديلات جوهرية على سياستها. فكان لا بد من الدخول في معركة التخلص من «داعش» في العراق. وهي معركة لم تنجح واشنطن في جعلها تسير وفق مخططاتها، بل يمكن الحديث، اليوم، عن مرحلة جديدة ستشهدها الساحة العراقية في القريب العاجل، وستتوّج بمحاصرة «داعش» في اكثر الاماكن ضيقا، وطرد التنظيم من غالبية مناطق غرب العراق، وتحديداً من مناطق الحدود مع سوريا.
ــــ في ايران، لم تكن اسرائيل، ومعها السعودية وعواصم كثيرة، تعتقد ان في الامكان التوصل الى تفاهم سمي «الاتفاق النووي»، فرض على الغرب التعامل بطريقة جديدة مع طهران، والقبول بها لاعبا مركزيا في اكثر من ساحة اقليمية. وهو امر تم من دون فرض اي تعديلات على سياسات ايران الخارجية، خصوصا لجهة دعمها المستمر والمفتوح لحركات المقاومة، ولنظام الاسد في سوريا، والحشد الشعبي في العراق، وانصار الله في اليمن، وحزب الله في لبنان.
ــــ في اليمن، اصيب الغرب بصدمة كبيرة جراء فشل الحرب السعودية على انصار الله. وبعد مرور نحو عامين، تبدو الرياض في نفق مظلم، وهي ــــ على تعنّتها ــــ تنشد حلا يخفف من خسائرها، بينما جرى اغراق جنوب اليمن بحروب اهلية، وانتشار كثيف لمجموعات «القاعدة». ولم يمنع ذلك كله توسع النفوذ العسكري لانصار الله داخل الاراضي السعودية نفسها، كما لم يحل دون توفير كل اشكال الدعم لهذه القوة من جانب قوى المقاومة في المنطقة. ومع كل التعتيم الاعلامي المغيّب لمشهد الجريمة البشعة المستمرة في اليمن، فان العالم يقترب من لحظة «ضبط» ايقاع الجنون السعودي.
ــــ في سوريا، حيث كان الجميع يتوقع انهياراً سريعاً للدولة وسقوط النظام، تراجعت الطموحات من إسقاط النظام الى محاولة إجباره على تنازلات سياسية. فخلال عامين فقط، سيطرت فروع «القاعدة» على كل المجموعات المقاتلة ضد النظام. ورغم الدعم العالمي، بالبشر والمال والعتاد والتدريب والمعلومات الامنية، وبمشاركة دول العالم كافة، عدّل صمود الاسد وجيشه، والدور الكبير الذي لعبته روسيا وايران وحزب الله، المشهد الميداني والسياسي بقوة. وتكفي مراجعة الخريطة العسكرية التي ينشرها داعمو الارهابيين لإدراك حجم استعادة الدولة لنقاط سيطرتها، وحجم الانهيار الذي يصيب خصومها، من الجنوب الى العاصمة فالساحل والشمال. وما الاستدارة الاضطرارية التركية الحالية، سوى اولى الاشارات على تغييرات ستقود الى نتيجة واحدة، وهي فشل مشروع الفتنة بواسطة التكفيريين.
اكثر من ذلك، فان عالم الدبلوماسية الصامتة، يعكس مؤشرات على تحولات كبيرة في الموقف الغربي، من الولايات المتحدة الى فرنسا ودول اوروبية وعربية. وهو امر سينعكس، ليس ثباتا للدولة السورية وحكومتها فحسب، بل تعزيزا لوجهة، لا تزال قاعدتها، مواجهة الاستعمار ولا سيما اسرائيل.

في مواجهة حزب الله

اما اذا عدنا الى ساحة المواجهة المباشرة مع حزب الله، فسنلاحظ ما هو اهم، وما يشكل مصدر القلق الابرز لقيادة العدو:
ــ لقد فشلت محاولات حثيثة من جانب العدو لتعديل قواعد الاشتباك مع المقاومة على طول الجبهة الحدودية. وجاءت عمليات الاغتيال لقادة وكوادر من المقاومة، لتفرض على قيادة حزب الله اعتماد مسار تصاعدي في الرد، وصولا الى الاستعداد للدخول في مواجهة شاملة. وهو ما أجبر على العدو عدم القيام بأي عمل عسكري مباشر على الاراضي اللبنانية، بما في ذلك العمليات الموضعية.
ــــ قرر العدو الانتقال الى الساحة السورية، واستغلال الازمة هناك، لتوجيه ضربات الى قدرات المقاومة، بعدما لمس سريعاً ان دخول حزب الله على خط الأزمة السورية، فتح الحدود اللبنانية ــــ السورية، ومعها مخازن الجيش السوري، على مصاريعها أمامه، ما وفر تغذية هائلة لمستودعات حزب الله من مختلف انواع الاسلحة المتطورة والحديثة بما في ذلك الاسلحة المنقولة من ايران.
ــــ قرر العدو شن غارات ضد قوافل عسكرية، او مخازن مفترضة للمقاومة داخل سوريا. ومع ان ما حصل، وما اعلن عنه او لم يعلن، لا يتجاوز معدل الخمس ضربات سنوياً منذ 2011. الا ان العدو يعرف ان عشرات، ان لم يكن المئات، من القوافل قد نجحت في ايصال المطلوب الى قواعد المقاومة في لبنان. اكثر من ذلك، فان رفع مستوى التهديد من جانب المقاومة ضد اي عمل يؤدي الى سقوط مجاهدين على يد العدو، حتى في سوريا، دفعه الى مراجعة حساباته، حتى وصل الامر في أحد الاعتداءات الى إطلاق صواريح تحذيرية لدفع المقاومين الى مغادرة شاحنات، ثم قصفها بعد ضمان عدم اسالة دماء.
ــــ عمليا، تنظر اسرائيل اليوم الى المشهد، فتجد ان ترسانة حزب الله باتت اكبر، من حيث الكم، بمئات المرات عما كانت عليه في 2006، كما أنها باتت تتوفر، من حيث النوع، على كل ما سعى العدو ويسعى إلى منع المقاومة من الحصول عليه ، وهو ذاك النوع من الأسلحة الذي تطلق عليه إسرائيل «الأسلحة الكاسرة للتوازن». اكثر من ذلك، يراقب العدو كيف ان حزب الله الذي كان نشاطه محصوراً في جبهة قائمة على طول الحدود مع لبنان، بات موجوداً على طول الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، ويملك مساحات مناورة لم تكن متوافرة قبلا، اضافة الى الخبرات الاستثنائية التي وفرتها الحرب في سوريا، ولو لم يكن هذا الأمر مقصوداً.
ــــ ولمزيد من البحث، لمس الغرب، ومعه السعودية واسرائيل، ان حزب الله خرج من دائرة القلق لبنانياً. بل صار في موقع الطرف ــــ المحور، لجميع الاحداث اللبنانية. وجاءت الحرب الامنية مع التيارات التكفيرية، لتوفر لأجهزة المقاومة خبرات هائلة في العمل الاستخباري، اضافة الى قدرات لم تكن متوافرة قبل عشر سنوات. وهو امر ترافق مع تطور استخبارات المقاومة العسكرية بما يؤدي الى خشية اكبر لدى العدو.
ــــ يلمس العدو، اليوم، تعاظم دور حزب الله الاقليمي بعدما بات لاعباً أساسياً في سوريا والعراق واليمن، وصاحب نفوذ كبير في أماكن اخرى من العالمين العربي والاسلامي. وبات في مقدور الحزب التأثير على ساحات تشكل حساسية اكبر للمحور الآخر، بأطرافه العربية والاسرائيلية والغربية. عدا، عن أن كل اشكال الفتن المذهبية، لم تعطل قدرات حزب الله في التعاون مع قوى المقاومة في فلسطين، بما في ذلك كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.

الآن، ماذا نفعل؟

هذا هو السؤال المركزي المطروح لدى كل القيادات العسكرية والامنية والسياسية في اسرائيل. والاجوبة عليه باتت تحتاج الى قرار يتجاوز حكومة العدو لوحدها، والى مبادرات عملانية محصورة بخيارات ضيقة للغاية، بل يمكن القول انها بين خيارين، اول لا ضرورة لذكره، وآخر، يتمثل في القيام بمغامرة، أساسها عسكري، لكنها تقود حتماً الى الحرب الثالثة التي بات العدو يعتبر نفسه جاهزا لخوضها... فهل يكون الهروب مرة جديدة نحو الحرب الشاملة؟ في هذا السياق، من الافضل لفت انتباه العدو والصديق، الى ان اسرائيل تواظب على تقديم تقديرات حول حجم القوة الصاروخية للمقاومة. وبعد كل مواجهة تأتي النتائج معاكسة.
في حرب تموز 2006، أطلقت المقاومة، خلال 33 يوماً، نحو 4300 صاروخ على كيان العدو. اليوم، يتحدث الاسرائيليون عن أن حزب الله سيطلق نحو 1500 صاروخ يومياً... هذه تقديرات العدو، وهي، حتماً، خاطئة!