فخامة الرئيس،تحياتي واحترامي وبعد،
لقد رحب اللبنانيون بوصولكم إلى أعلى سلم المسؤولية، وزاد في ترحيبهم الإعلان في أكثر من مناسبة عن عزمكم على مكافحة الفساد، الذي أصبح للأسف الشديد يفتك في شتى أوجه حياتهم اليومية، وعلى مختلف مستويات الإدارات العامة.

ومن دواعي التفاؤل والأمل أن الالتزام باستئصال جذور الفساد يأتي هذه المرة على لسان من يقف منذ عقود في طليعة المدافعين عن قضايا لبنان المصيرية وعن كرامة وحقوق اللبنانيين.
هذا ما يشجعني، يا صاحب الفخامة، على التوجه إليكم بهذا الكتاب المفتوح، كي ألفت انتباهكم الكريم إلى بعض المعطيات حول الانحرافات التي تنطوي عليها السياسة المتبعة لاستثمار ثروة البترول والغاز الموعودة، والتي سبق لي وأشرت إليها بإسهاب في كتابين وفي العديد من المحاضرات والمقالات في وسائل الإعلام، بما في ذلك كتاب «البترول والغاز في لبنان: نعمة أم نقمة؟»، انحرافات تتم منذ سنين تحت غطاء السرية التامة، إلى درجة أن اللبنانيين قد حرموا حتى اليوم من معرفة شروط استثمار هذه الثروة والتي تتضمنها المراسيم التي أُقرّت مؤخراً، كما أن المجلس النيابي قد حرم حتى من الاطلاع عليها ومناقشتها، شأنه في ذلك شأن معظم الوزراء الذين أقروا على عجل نصين تشريعيين سريين يمتدان على مئات الصفحات، دون أن يتاح لهم الوقت اللازم لمجرّد قراءتها.
هذا التعتيم الذي يلف منذ سنوات التعاطي مع قضية بأهمية تطوير صناعة بترول وغاز وطنية لم يَحُل دون ظهور المؤشرات حول مطامع بعض من رأى في هذه الثروة فرصة العمر لتكديس المليارات على حساب الشعب اللبناني. وقد اتضحت هذه الانحرافات والمخاطر على مراحل يمكن إيجازها في النقاط التالية:
1 - التشويه الصارخ لنص وروح القانون البترولي 132/2010، عن طريق المرسوم التطبيقي الخاص بنموذج «اتفاقية الاستكشاف والإنتاج للأنشطة البترولية» المقترح عقدها مع الشركات الأجنبية. وقد حصل التشويه عندما تجاهل المسؤولون عن صياغة هذا المرسوم نظام «تقاسم الإنتاج» المعروف في كل أنحاء العالم، والذي نص عليه القانون في المادة 44 وغيرها، ليستعيضوا عنه بما يسمونه «تقاسم الأرباح» الذي لا وجود له في أي بلد آخر، والذي يشكل عملياً عودة مقنعة لما هو أسوأ مالياً وسيادياً من نظام الامتيازات القديمة التي قضت عليها كلياً آخر موجة من التأميمات في السبعينيات من القرن الماضي.
2 - النتيجة المباشرة لتشويه القانون ولما جاء فيه حول نظام «تقاسم الإنتاج»، كان إقصاء الدولة كلياً عن المشاركة وصنع القرار في الأنشطة البترولية، كما تنص على ذلك حرفياً المادة 5 من المرسوم المذكور بالتأكيد على أنه «ليس للدولة نسبة مشاركة في دورة التراخيص الأولى» (!). هكذا، وفي ثماني كلمات لا غير، تم طرد الدولة برمتها، وبكل ما تمثّله، من كل مراكز المسؤولية في استثمار ثروتها الموعودة. ولم يترك لها سوى الدور المهين الذي يتمثّل في «حق طلب تعيين ممثلين للحضور كمراقبين» في «بعض» اجتماعات لجان إدارة الشركات العاملة (المادة 16).
هذا الفراغ الذي أحدثه تعطيل دور الدولة والامتناع عن إنشاء شركة نفط وطنية، فتح الباب على مصراعيه لدخول شركات وهمية لا وجود لها إلا على الورق، تم تسجيلها على جناح السرعة برساميل لا يتجاوز أحدها 1,300 دولار، وأعلنت هيئة البترول رسمياً عن «تأهيلها المسبق» للحصول على حقوق استكشاف وإنتاج بموجب المرسوم رقم 9882/2013، علاوة على بعض الشركات الصغيرة التي تتداخل رساميلها ومصالحها بعضها مع بعض، بما في ذلك شركات ملاحقة قضائياً في الخارج ويعرف عنها بالإنكليزية بـ»الهوليكان»، أي الشركات المارقة. أما الهدف فهو فرض هذه الشركات الوهمية والمارقة ومن تمثله، كشركاء مع الشركات الكبرى التي تقوم بدور المشغل (Operator)، وذلك في إطار «شراكة تجارية غير مندمجة». وهكذا تكتمل الحلقة ويتم نقل ملكية جزء من البترول أو الغاز المكتشف، قد تبلغ قيمته مليارات، وربما عشرات المليارات من الدولارات، من الدولة إلى وسطاء ومصالح خاصة. نقل الملكية هذا يشكّل بكل المعايير قفزة نوعية على سلم الفساد لم يسبقنا إليها أي بلد من أكثر بلدان العالم فساداً...
3 - بغية تحقيق الغاية المنشودة، لم يبخل واضعو نموذج الاتفاقيات مع الشركات بأي من التدابير الأخرى الرامية لإغراء الشركات الأجنبية وحملها على التفاوض لإبرام عقود مع شركات عملاقة، تلزم لبنان لمدة تناهز 40 سنة، ويصبح من شبه المستحيل تعديلها أو الرجوع عنها. وفي طليعة هذه التدابير نظام ضريبي مجحف وصرف النظر كلياً عن كل أنواع العلاوات (Bonus)، واللجوء إلى آلية المزايدة (Bidding) لتحديد سقف استرداد النفقات الرأسمالية (Capex) أو حتى نصيب الدولة من «بترول الربح» انطلاقاً مما تقترحه الشركات (المادتان 23 و24). وهي آلية لا وجود لها في البلدان الأخرى نظراً إلى أنها تشكل بامتياز مزراباً من مزاريب توزيع الرشى.
هذا كله يؤدي عملياً إلى تقليص حصة لبنان من الأرباح إلى حوالى 46%، أي 14 نقطة مئوية دون الحد الأدنى الذي تحصل عليه حالياً البلدان المصدرة، والذي يتراوح بين 60% في بعض هذه البلدان و90% في النروج. لا بل إن حصة الـ 46% التي يمكن أن يتأملها لبنان نتيجة للتشريعات الراهنة تبقى حتى دون الدخل الذي كان يؤمنه نظام الامتيازات القديمة التي نبذتها كل الدول المصدرة دون استثناء، والذي كان يتكون من إتاوة 12,5% وضريبة 50% على الأرباح.
هذا النظام الضريبي يؤدي إلى خسائر فادحة تضاف إلى تلك الناجمة عن «تجيير» حقوق الملكية إلى شركات وهمية ومصالح خاصة. مع الإشارة إلى أن الحديث عن حصة لبنان من أرباح الشركات العاملة لا يبقى له كبير معنى عندما تحرم الدولة من المشاركة المباشرة في الأنشطة البترولية، وتجرد من إمكانية المراقبة الفعلية على عمليات وحسابات هذه الشركات.
تضاف إلى ذلك عقود المسح البحري والبري التي تمت كلها بالتراضي خلافاً للقوانين المرعية، والأساليب التي استعملت منذ سنوات لتضليل الرأي العام حول مسيرة البترول والغاز، بما في ذلك التغني بانتهاج «النموذج النروجي»، الذي يتناقض كلياً في الواقع مع كل ما يحصل في لبنان من حيث الشفافية ودور الدولة المحوري وإنشاء شركة ستاتويل الوطنية، الخ.
لحسن الحظ أن الوقت لم يفت بعد لتدارك هذه المخاطر، ولتجنيب لبنان «لعنة البترول»، عن طريق حوار وطني موضوعي وشفاف. حوار يبدأ بتكليف لجنة من رجال القانون والاقتصاد، الذين يفخر بهم لبنان، للتدقيق في المعطيات المذكورة ولوضع الأسس والضوابط التي لا بد منها لتأمين ما يحق للبنانيين أن يأملوه من استثمار ثروتهم.
ولحسن الحظ، يا صاحب الفخامة، أن وجودكم على رأس هرم المسؤوليات هو أفضل ضمانة لبذل الجهود اللازمة لذلك، ولإعطاء توجيهاتكم الكريمة لتحقيق الشفافية والمساءلة والمحاسبة وحسن الحوكمة، بغية درء خطر الفساد والحؤول دون تحول الثروة الموعودة، لا سمح الله، إلى تسونامي يهددنا جميعاً.
أتمنى لكم، يا فخامة الرئيس، كامل التوفيق في تحمل مسؤولياتكم الجسيمة، مع التفضل بقبول فائق تقديري واحترامي.