على كتف ذلك الوادي الذي يفصل بين المتن وكسروان، ثمة «كرخانة» عمرها من عمر صناعة الحرير المندثرة... تحتضن بغرفها الحجرية آخر ما تبقّى من جنة منير أبو دبس المفقودة. رائد المسرح اللبناني الذي خرجت من عباءته تجارب الستينيات الطليعية، عاد إلى الفريكة وأنطلياس، بعد رحلة طويلة إلى العالمية. إلا أن «الفريكة وأنطلياس لم تعودا إليّ»، يقول مستعيداً بساتين الليمون التي اكتسحتها اليوم لعنة الأسمنت.بهدوء شيخٍ حكيم، يستفيض أبو دبس في استعادة ماضيه. يدخل في التفاصيل الحميمة، كأن الحديث فرصة دائمة لاكتشاف المزيد عن النفس: «إذا كان معنى الرحيل هو البحث الدائم عن الأب، فالمسرح الذي مارسته نوع من الرحيل»، يقول الولد الذي تربّى في كنف والدته وسط غياب دائم للوالد في الأرجنتين. ومَن غير أوديب يصلح مرجعيةً لعاشق طقوسية المسرح الإليزابيتي والإغريقي؟ لا أسرار في حياة ذلك الرجل غير «السر الكبير» الذي لا يزال يبحث عنه... آملاً ألا يكتشفه كي «يظلّ يمارس المسرح». على مدى سنوات، خيط رفيع ربط بين ظلال القنديل المتهادية على حائط الكرخانة التي تربى فيها، ومراسم الدفن والأعياد التي كان أول من يحضرها في القرية مأخوذاً بسحرها من جهة، وبين ذلك الكرسي المضاء بلمبة خافتة على المسرح في أحد مشاهد «قيصر وكليوبترا» لبرنارد شو التي شارك فيها طالباً في فرنسا من جهة أخرى.
ذلك الخيط يرتبط أوّله بخيالات الطفولة المسحورة المغمّسة بالغيبيات. وهو يمتدّ عبر نظرية جماليّة وفلسفيّة مركّبة تجمع بين طقوسية المسرح اليوناني وجماليّات «الفقر» في مسرح غروتوفسكي، بين دينامية الشعور لدى الممثل حسب ستانسلافسكي وديناميّة الفضاء في رؤية غوردون كريغ. والأخيران نادراً ما يلتقيان، لكنّهما التقيا عند أبو دبس! هذه التوليفة الخاصة مثّلت قاعدة نظرية لبناء مدرسة وأساساً لإطلاق حركة مسرحية شاملة.
لم يكن الشاب منير أبو دبس يعلم أنه سيختار المسرح. سلك درب الرسم في البداية. وحين لاحظ أستاذه في مدرسة «الحكمة» تميّزه في الرسم، وفّر له منحة للالتحاق بـ«الأكاديمية اللبنانية» التي أسّسها أليكسي بطرس، والمعروفة اليوم بـALBA. هناك، راح يرسم خارج المنهج، لكن في المنزل، كان قلق والدته عليه يزداد يوماً بعد آخر. بعد سنوات، سيسألها كيف سمحت له بالسفر وهو في تلك السن الصغيرة. ستجيبه بأنها آثرت غربته على جنونه. عام 1952، سيفرّغ طاقاته في باريس: سيلتحق بالمدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، ويتابع دروس المسرح والأدب الإغريقي في السوربون، ودروس العزف على الكمنجة. كذلك سينضم إلى المحترف المسرحي الذي كان يديره روجيه غايّار (١٨٩٣ ــــ ١٩٧٠). شيئاً فشيئاً، ستسقط الاختصاصات واحدة تلو الأخرى ليبقى المسرح. سينجذب الشاب نحو المسرح اليوناني الذي مثّل له «عودة إلى الجذور» كما يراها، «لأنّ مصدر الأساطير اليونانية ليس بعيداً عن الميثولوجيا الفينيقية» كما يؤكّد.
إلى جانب دراسته الأكاديمية، شارك في عروض مسرحية عامة، إلى أن التحق بالتلفزيون الفرنسي ORTF، فعمل مساعدَ مخرج في مجال تصوير المسرحيات للشاشة الصغيرة. كذلك شارك في أدوار صغيرة في أفلام تلفزيونية. تلك الخبرة التي اكتسبها، لم تلبث أن أصبحت مطلوبة في لبنان. ذات يوم طلب منه رينيه أوري، أحد المكلفين بتأسيس أول قناة تلفزيونية لبنانية رسمية، المساهمة في إعداد التقنيين والمخرجين للقناة الوليدة.
هكذا، قضى أبو دبس ثلاثة أشهر في لبنان تعرّف خلالها إلى مجموعة من المهتمين بالمسرح، من بينهم الثنائي أنطوان ولطيفة ملتقى. سرعان ما سيؤلف معهما نواة الحركة المسرحية في لبنان، وستعيّنه إدارة مهرجانات بعلبك مستشاراً فنياً. نجاحه في تلك المهمة سيدفع اللجنة إلى تمويل مدرسة للمسرح يديرها أبو دبس. هكذا أبصر «معهد التمثيل الحديث» النور عام 1960، فضمّ الرعيل الأول من رواد المسرح اللبناني: أنطوان ولطيفة ملتقى، ريمون جبارة، ثيودورا راسي، أنطوان كرباج، ميشال نبعة، ميراي معلوف وكثيرون غيرهم.
المختبر الأول في إعداد الممثل الذي انبثقت عنه «فرقة المسرح الحديث» نجح في تكريس المسرح كفنّ ورسالة وطريقة حياة، وإطلاق العصر الذهبي للمسرح اللبناني. كان ذلك عام 1961 حين قدمت الفرقة في مهرجان «فولوبيليس» في المغرب مسرحيتي «أوديب ملكاً» لسوفوكل و«أنتيغونا» لجان أنوي. حدثٌ مؤسف سيلي تلك الانطلاقة: انفصال أنطوان ولطيفة ملتقى عن الفرقة لسبب يعلنه أبو دبس اليوم للمرة الأولى: لقد منح الدور الأول في «ماكبث» لممثّل صاعد في فرقته هو أنطوان كرباج. «نحن في النهاية مدرسة، من صميم عملنا أن نكتشف المواهب الجديدة، رغم أن ملتقى كان يستحق الدور، إلا أنني آثرت منحه لكرباج لأنه كان مناسباً لشخصيته وأدائه». مهما كان السبب في انفصال آل ملتقى، فسيسهمان من جهتهما أيضاً في التأسيس للحركة المسرحيّة وإطلاقها. وسيبقى الخلاف مفتوحاً بين الدارسين على نسب الأبوّة الفعليّة للمسرح اللبناني الحديث إلى أبو دبس أو إلى أنطوان ملتقى.
تتالت مسرحيات الفرقة التي أحاط بها مناخ تعبيري قاتم. اختار أبو دبس الأماكن المهجورة، بين ميناء جبيل وقلعة بعلبك وقلعة صيدا، ليقدّم «الذباب» لسارتر (1963)، «الإزميل» لأنطوان معلوف (1964)، «الملك يموت» لأوجين يونيسكو (1965)، «ملوك طيبة» (دمج لأعمال عدة لسوفوكليس، 1966)، «فاوست» غوته (ترجمة أدونيس، 1968)...
عام 1970، أصبح للفرقة مسرح في منطقة القنطاري. إلا أنّ الخطوة الواعدة نظرياً لم تكن ذات فأل حسن على أرض الواقع. ذلك الواقع الذي يغلي سياسياً ومسرحياً، دفع لجنة «مهرجانات بعلبك» إلى تأجير المسرح الجديد. ما لم يوافق عليه أبو دبس الذي آثر في العام نفسه الانفصال عن اللجنة، خصوصاً بعدما رفضت تعديل النظام للسماح لأعضاء الفرقة بالمشاركة في أعمال خارج الفرقة.
عام 1971، أسّس أبو دبس «مدرسة بيروت للمسرح الحديث» في كليمنصو. هناك، بلغت تجربته أقصاها في «الطوفان» التي قدمها في العام نفسه. المسرحية التي ستحتفي بها جريدة L'Humanité الباريسيّة، بعد عرضها في برلين الشرقية، ستسهم في ذيوع صيت المخرج في فرنسا. ذلك المكان الذي سيعود إليه أبو دبس عام 1977، هارباً من الحرب التي عزلته في الفريكة مانعة إياه من الوصول إلى محترفه في كليمنصو.
في فرنسا، سيدير حتى عام 1998 محترفات مسرحية بالتعاون مع وزارة الثقافة الفرنسية. إلا أنه في 1997، ستعيده لعنة البحث عن الجنّة المفقودة إلى ذلك الوادي الذي يفصل بين المتن وكسروان. في تلك الكرخانة، سيقضي صيفه كل عام، بينما يقيم شتاءً مع عائلته في فرنسا. هناك، أسّس عام 1999 «مهرجان الفريكة» السنوي، واستأنف إعطاء الدروس في محترفه الجبلي الذي خرّج في ما مضى ممثلين كباراً مثل ميراي معلوف وأنطوان كرباج. وعاد إلى الإبداع من خلال أعمال آخرها «ساعة الذئب» و«دائرة سليمان» اللتين عرضتا أخيراً ضمن فعاليات «مهرجان الفريكة».
ألم يتعب بعد؟ بهدوءٍ مسرحيّ مدروس، يحكي لنا قصة سكان التيبيت الذين تقضي تقاليدهم أن يضعوا رغيفاً من الخبز على الطرق لعابري السبيل الجائعين... «عملي أن أظل أضع رغيف الخبز على الطريق».



5 تواريخ

1932
الولادة في الفريكة (جبل لبنان)

1952
سافر إلى باريس حيث التحق بالمدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، وانضم إلى محترف روجيه غايّار المسرحي

1960
عيّن مستشاراً فنياً لـ«مهرجانات بعلبك»

1971
الانفصال عن لجنة مهرجانات بعلبك وتأسيس «مدرسة بيروت للمسرح الحديث» في كليمنصو، حيث قدم «الطوفان»

2011
قدّم أخيراً «ساعة الذئب» و«دائرة سليمان» ضمن «مهرجان الفريكة» الذي أسّسه بعد عودته النهائيّة إلى لبنان عام 1997