لم يكن أمام الصبي القروي طريقة مشرِّفة للهرب من واقعه. كان على مخيّلته أن تمضي الوقت في اختراع إجابات عن سؤال «من أين يأتي المطر». في النهاية، رسا على ثلاث إجابات. الأولى، «ربنا يريد أن يسقي الأرض المتعطشة، والله يفعل ما يشاء». الثانية، «الفيل الأبيض ضرب الثور الأحمر فنزل المطر». أمّا الثالثة، فقصة اصطدام السحب بعضها ببعض ... فكان أن اختار الأخيرة. لملمت الحياة أوراقها، وظلّ وعي خالد علي متيقّظاً لأسئلة خطرة تالية، كشفت عن نفسها بعد 15 عاماً، عندما صار حقوقياً شهيراً، وأحد أشرس المدافعين عن الطبقة العاملة المصرية.

انحاز خالد علي صبياً، إلى معسكر الشيوعيين في قريته ميت يعيش «الكوزموبوليتانية»، في محافظة الدقهلية، وقد أنجبت من قبل مناضلاً شيوعياً بحجم شهدي عطية الشافعي. وذات مرّة، كان على موعد مع اتصال هاتفي، سيغيّر مجرى حياته بامتياز. كان المتصل يوسف درويش، الأستاذ، والمناضل الشيوعي الاستثنائي، يحدثّه: «خالد. كيف الحال؟ تعال إلى البيت. أريدك في أمر خاص. سلام». لم يتردَّد في حمل حقيبة ثقيلة من عنده، زاخرة بالمذكرات الشخصية، والوثائق التي تدوّن كفاح الطبقة العاملة. توفي العم يشوف بعد ذلك بأيام قليلة، وكان ذلك عام 2006.
في نهاية اللقاء الأخير، قال العمّ يوسف: «قضايا العمال غير مربحة، لكنّها ستعمّدك في نهاية الأمر. الطبقة العاملة تمجِّد من يدافع عنها. العمال لا ينسون». بعد فترة قليلة، سيصفق له العمال بحرارة غير عادية في عيدهم (2009)، ويكرمونه في نقابة الصحافيين، «لدعمه الحقوق العمالية، والدفاع عن المهمّشين».
من يمرّ في شوارع الطبقة العاملة، يهده العمال وردة. بعض الذين اقتربوا أكثر، نالوا قبلة على الجبين. لكن أن تكرس حياتك لأجلهم، فلك الخلود. في واجهة مكتبه المتواضع في وسط القاهرة، تطِلُّ صور بعض من فازوا بقلب الكادحين. «إلى راحلين أكثر خلوداً، من أحياء، وعمال، ومناضلين»، تقول اللوحة التي احتضنت صور يوسف درويش، وأحمد نبيل الهلالي، وهشام مبارك، وآخرين ...
لم يعلِّق هو. نقل النظر إلى لوحة مجاورة. التمعت عيناه. هنا عمال «شركة طنطا للكتان». بيعت الشركة لمستثمر أجنبي، بـ 83 مليون جنيه مصري، رغم أنّ سعرها الحقيقي يجاوز المليارات. حرّر العمال في لوحة ورقية متواضعة، محاطة ببرواز خشبي بسيط، «شهادة تقدير للمحامي المناضل الذي دعم إضرابنا الأخير أمام مجلس الوزراء». بعد أشهر على البيع، انتزع خالد علي (حزيران/ يونيو 2010) حكماً تاريخياً لهؤلاء العمال من محكمة طنطا، يقضي بحبس المستثمر السعودي، صاحب الشركة. «حكم فارق. يلوّح بالعقوبة أمام كل رجل أعمال تسوّل له نفسه إهدار حقوق العمال».
شاش، وقطن طبي، ومطهرات جروح، ومسكنات لآلام العظام على رفوف خزنة معدنية في مكتبه. «هذا ما بقي من مواد طبية كنا نقدمها في الأيام الأولى للثورة لدعم المستشفى الميداني في ميدان التحرير». يمسح عرق جبهته، وهو يتحدّث عن قانون تجريم الإضراب الذي أصدره مجلس الوزراء أخيراً: «يبلّوه ويشربوه، فالاحتجاجات متواصلة. الطبقة العاملة هي الحامي الأول للثورة وضمانة استمرارها».
في مواجهة مكتبه مباشرة، هناك لوحة عن حقوق المرأة العاملة تضمّ صوراً لـ«نضالات عمالية، دعمناها وانتصرت، منهنّ الرائدات الريفيات، وعاملات الضرائب العقارية، وعاملات شركة «وبريات سمنود»، وعاملات غزل المحلّة ...»
ساهمت المصادفة كثيراً في تشكيل مزاج خالد الإنساني والسياسي. عندما تخرّج من كليّة الحقوق، عمل محامياً في مكتب أقل من مغمور، في مدينة ميت غمر، وانتقل بالمصادفة إلى مركز المساعدة القانونية. التقطه أحمد سيف، المحامي والناشط الحقوقي الذي تعرض للتعذيب أكثر من مرة، وسجن سنوات في قضية طلابية. «فتح لي مكتبته وأعطاني مفتاحها. مناضل رومانسي».
بعد أربع سنوات، يؤسس خالد مع سيف وآخرين، «مركز هشام مبارك للقانون»، وينتزع من خلاله عشرات الأحكام: حكم بطلان انتخابات النقابات العمالية، وقضية خصخصة الهيئة العامة للتأمين الصحي، وقضية نهب الدولة لأموال التأمينات المقدرة بـ 200 مليار جنيه مصري ... صار خالد مديراً للمركز في ما بعد، ثم تركه ليؤسس «المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية». في هذا المركز واصل نضاله لمصلحة الحقوق العماليّة، وكسب حكماً تاريخياً يلزم الدولة بإقرار حد أدنى للأجور، وانتزع حكماً بإنهاء الحراسة على نقابة المهندسين...
لم تمرّ كلّ تلك النضالات بسلام. تعرّض خالد للاعتقال للمرة الأولى عام 1997، في موقع إضراب ممرضات «مستشفى جامعة الزقازيق». وتعرض للضرب على أيدي الشرطة، واعتقل لأربع ساعات في أحد متاجر وسط القاهرة. كان ذلك يوم عيد العمال. كما تعرض مكتبه، الواقع أسفل «مركز هشام مبارك»، لهجوم من ضباط أمن الدولة والشرطة العسكرية، في أيام الثورة الأولى. وأدى الهجوم حينها الى اعتقال أحمد سيف، ونشطاء آخرين، وأفرج عنهم قبل خلع الرئيس السابق حسني مبارك.
بعد سنوات، سيكمل تلاميذ آخرون مشوار خالد: «ننظم في المركز دورات تدريبية لخلق كوادر من المحامين العماليين، كما نُعِدّ للعمال دورات أخرى لتعريفهم بحقوقهم الأساسية». لا ينسى أن يوسف درويش أسس قبل عقود مدارس ليلية لتعليم العمال مبادئ التنظيم واللغة العربية ...
قبل أيام قليلة، أنشئت النقابة المستقلة لعمال هيئة النقل العام، ونقابة العاملين في مستشفى منشية البكري. «أنا متفائل بوضع العمال بعد الثورة. الطريق مفتوح لتأسيس الاتحاد المستقل لعمال مصر». ساهم خالد علي، مع آخرين، في دعم تأسيس أربع نقابات مستقلة. يشير بيده إلى آخر كتاب شارك في إعداده: «كيف تؤسس نقابة عمالية»، ويقول: «العمال أوّل من عمّدوا الثورة. مستقبل الطبقة العاملة في عهدة الطبقة العاملة».



5 تواريخ


1972
ولد في قرية ميت يعيش في محافظة الدقهلية (مصر)

1994
حاز إجازةً في الحقوق من «جامعة الزقازيق»

1998
أسّس «مركز هشام مبارك للقانون» مع مجموعة من الناشطين والحقوقيين

2008
أفضل ناشط حقوقي وعمالي في مصر في استفتاء أجرته جريدة «الكرامة» الناصرية

2011
يعمل مع منظّمات حقوقيّة مصريّة على إعداد قوائم بأسماء وثروات رجال أعمال كسبوا أرباحاً من المال العام، بهدف رفع دعوى عليهم أمام «المحكمة الجنائيّة الدوليّة» في بلجيكا