تعبق رائحة الشاي في الغرفة. إنّها مكتب وصالون في الوقت نفسه، يجالس فيها هيثم منّاع أصدقاءه. تغطّي المكتبات الجدران الأربعة، وفيها وحولها تتكدّس الكتب، وأشرطة الفيديو، والصحف، وحُزم من المناشير. قرب مدخل المطبخ، مكتب صغير عليه كومبيوتر قديم، وآخر محمول، وأوراق وهواتف خلوية يصعب معرفة عددها. على كرسيّ عتيق، يجلس منّاع مبتسماً، مهما كان ثقل الخبر الذي يحمله محدّثه من مدينته... درعا. يطلب من محدثه «أن لا يبشي» (لا يبكي) ويؤكد له أن «القتلى ليسوا بالمئات...».
يعود اهتمام هيثم منّاع بحقوق الإنسان إلى المناصب الكثيرة التي تسلّمها، وأهمها الناطق الرسمي باسم «اللجنة العربية لحقوق الإنسان». اليوم يوم خاص بالنسبة إليه. ربيع العرب وصل إلى سوريا، وانطلق تحديداً من مسقط رأسه. في المدينة السورية المشتعلة، ولد هذا الناشط السياسي والحقوقي السوري، وعاش فيها قبل أن ينتقل إلى العاصمة لدراسة الطب. «كان أبي (يوسف ناصر العودات) حينها في السجن، حيث قضى ١٥ سنة، رغم أنه بعثي ومن مؤسسي البعث». دراسة الطب لم تبعده عن ضفة الكتابة، فقد شارك في تحرير «النشرة الطبية» لجامعة دمشق، وانتقل بعدها للكتابة في مجلة «دراسات عربية»، ومن أشهر دراساته المنشورة فيها «الأسرة الأبوية في الإسلام» التي سبّبت منع دخول المجلة إلى عدد من الدول العربية.
مقالة نشرها في مجلة «الأسبوع العربي» دفعت الأمن السوري إلى «الاهتمام به للمرة الأولى». في المركز، سأله الضابط: «لماذا لا يوقِّع أبوك مقالاته بنفسه؟». بكى الشاب. سأله الضابط «ماذا فعلت لك كي تبكي؟». لم يكن يبكي فقط لانقطاع الصلة مع الوالد السجين، بل بسبب هذا الانتزاع المعنوي لاسمه عن كتاباته أيضاً. «روح من هون!» بهذه الكلمة أُفرِج عنه. إلا أن هذا اللقاء كان بداية لمسيرة كرٍّ وفرٍّ طويلة مع السلطات الأمنية في سوريا.
عمله الفكري نبع من دراسات شخصية. قبل نكسة الـ ٦٧، نهل من كتب وصفها بـ«القومية الانتقادية». لم يقرأ ميشال عفلق مثلاً، بل «الحرية ومشكلاتها في البلدان المتخلفة» لمنيف الرزاز، أو «التجربة التاريخية الفيتنامية» لياسين الحافظ... ثم جاءت النكسة. «هزم عبد الناصر، فانهزم معه الفكر القومي. الإسلام والماركسية لم ينهزما». في ظرفِ تديّن عام، انصرف نحو قراءات إسلامية: الأفغاني، وأبو الحسن الندوي، وكل ما كان قد وقع تحت يده في «مكتبة إسلامية سرية تعرفت إليها». في هذه الفترة أيضاً، «حفظت القرآن وعملت على معرفة الاتجاهات الفكرية الجديدة، وذهبت لمقابلة حسين مكي مسؤول الطائفة الشيعية، وتوجهت إلى حماه للاستماع إلى مروان حديد، الراديكالي الإسلامي».
بعد ذلك انتقل إلى «الماركسية عبر تحالف على مستوى طليعي، بين الناصريين، والبعثيين الثورويين، وعدد من الشيوعيين». نشاط قاده نحو «العمل السري» بين عامي ١٩٧٦ و١٩٧٨. يروي أنّه خلال هذه الفترة، جرى اعتقال والدته وشقيقه، و36 شخصاً من أقاربه للضغط عليه. حينها، اتصل بمسؤول الفرع ليعلمه أنّه لا يهتم «لا بالعائلة ولا بالعشيرة، وأنّ بإمكانه اعتقال عشيرة العودات كلّها إن أراد ذلك». هذه الحادثة قادته إلى «الهرب من سوريا». يستدرك مصحّحاً عبارته: «غادرت البلاد سراً، بهوية مزيفة، برفقة ماري سورا ـــــ زوجة عالم الاجتماع الفرنسي الذي خُطف وقُتل في لبنان ـــــ وكلبها، ورفيق لبناني من بلدة تنورين (شمال لبنان). شُغل الشرطي بساقي ماري، فلم ينتبه إلى الأوراق المزوّرة».
هيثم العودات (هذا اسمه الأصلي) درس علم الاجتماع في فرنسا، ونال شهادة الدكتوراه في أنثروبولوجيا الإسلام، بعدما تابع دراسته الطبية، وتخرّج وعمل في أحد مستشفيات باريس. وهنا خبر «العنصرية مباشرةً»، حين قال له أحد مرضاه متودّداً: «أنت من المهاجرين الذين لن نطردهم». إلا أنّ هاجس النشاط السياسي ظلّ يلاحقه، فحصَّل دبلوماً في القانون الدولي، وغاص في الشأن العام، إلى جانب مؤلفات غزيرة، أبرز عناوينها: «الإمعان في حقوق الإنسان»، و«الإسلام وحقوق المرأة»، و«المقاومة المدنية»، و«الدكتاتورية في مختلف تعبيراتها»، إضافةً إلى دراسات عدة، نشرت بلغات متنوّعة، بحكم مسؤولياته في المنظمات غير الحكومية، الدولية منها والعربية.
أسهم الرجل في حملات عدة للإفراج عن المعتقلين السياسيين في بلدان عربية وفي أوروبا. ويروي هيثم منّاع أنّ الرئيس السوري السابق حافظ الأسد بعث إليه برسالة مع أحد أفراد عشيرته، يقول له فيها إنّه «يحترمه لأنّه لا يضخّم أعداد المعتقلين»، ويدعوه إلى العودة إلى بلاده «حيث لا حكم عليه رغم أنّه قاسٍ مع النظام»، لكنّه رفض حسب قوله، بعدما ربط موافقته على العودة «ليس بمنصب وزاري، بل بمطلب الإفراج عن كل المعتقلين». إلى جانب نشاطاته المتعددة، أسهم في الحملة لإغلاق معتقل غوانتانامو الشهير، وعمل على الإعداد لـ«مؤتمر باريس لنجدة الجمعيات التي صنّفت على لوائح الإرهاب»، ما أدى إلى استدعائه إلى مراكز الأمن الفرنسية.
كان أوّل سؤال وجّهه إليه رجال الاستخبارات الفرنسيّة: «أين اللحية؟». ضحك وأجاب: «كان عندي لحية ماركسية، لكنني حلقتها خوفاً من الملاحقة». وحين تعجبت المحققة: «ماركسي وتدافع عن الإسلاميين؟»... أجابها: «لا نميّز بين معتقل وآخر على أساس وجهة نظره. أليس هذا أوّل درس نتعلّمه في مجال حقوق الإنسان؟ (...) تتحمل فرنسا يمينها المتطرّف، وتبعاً للمنطق نفسه علينا أن نستوعب كلّ إفرازات مجتمعنا ضمن الممارسة السلمية للعمل السياسي».
أحداث الربيع العربي دفعت هيثم إلى واجهة الإعلام الفرنسي خلال الأيام الماضية. لا يكلّ هاتفه عن الرنين في الشقة الصغيرة، حيث علّق لوحة كتب عليها «وقد خاب من حَمَلَ ظلماً»، إلى جانب علم سوريا وعليه كلمة «الكرامة». نسأله إن كان الربيع قد وصل فعلاً إلى سوريا؟ يردّ باقتضاب مبهم: «قبل الأحداث الأخيرة، كان الشعار المطلوب تغيير النظام». أما اليوم، فالسؤال يبقى معلّقاً. كتاباته تذكّر بأنّه لا يحب استعمال مصطلح الشارع العربي، ولا النظام السوري، بل يفضل «المواطن العربي والسلطة السورية».
اتصال هاتفي جديد سحب الدكتور نحو غرفة النوم الوحيدة... إلا أن صوته ظلّ يتناهى إلى المكتب: «انتبهوا للأطباء، داروهم ليهتموا بالجرحى»، ثمّ يواصل بصوت متهدّج «أريد أسماء القتلى... كم بات عددهم؟». يرنّ الهاتف الثاني. «انتظر، معي «الجزيرة» على الخط الثاني. أي ساعة؟ عندي موعد مع «أم. بي. سي» بعد ذلك. أوكي. سوف أركب المترو وأكون عندك».
يعود إلينا، ويعتذر عن المقاطعة، من دون أن ينسى السؤال المعلّق: «عندما استهدفت سوريا التي تدعم المقاومة... رفضنا مدّ يدنا لمن أراد إسقاط السلطة». يضيف متردداً: «وقوف الحكم آنذاك مع المقاومة كان كافياً». يتنفّس عميقاً ويتابع: «المواطنون في سوريا كلهم وطنيون. كلنا مع فلسطين، فكفى تمنيناً بدعم المقاومة». ويختم: «دعم المقاومة الوطنية يقوم أولاً على المواطنية الشرعية».



5 تواريخ

1951
ولد باسم هيثم العودات في درعا (سوريا)

1972
بدأ الكتابة في «دراسات عربية» بموازاة دراسة الطب وبيع الصحف

1978
غادر البلاد مهاجراً إلى فرنسا بعدما بدأ التضييق عليه من جانب الأمن السوري

2003
أعيدت إليه حقوقه السياسية والمدنية في بلاده إلا أنّه فضّل البقاء في الخارج

2011
يستقبل الإعلام في شقّته الباريسيّة، ويتنقّل بين الاستوديوهات، مواكباً مجريات الربيع العربي