تونس | مرة أخرى، يستهدف التشدد السلفي الغريب عن الروح التونسية مقامات الأولياء الصالحين. هذه المرة، التهمت النيران «مقام السيدة عائشة المنوبية» في ضاحية منوبة وأتلفت الأثاث والوثائق التي تعود الى القرن الثالث عشر الميلادي زمن الدولة الموحدية. هذا العدوان سبّب حالة إحباط شديدة بين مريدي السيدة المنوبية من المتصوفة الذين اعتادوا التردد على المقام طيلة أجيال متعاقبة. كما أكد من جديد خطورة التيار السلفي الوهابي الذي يستهدف بجدية تاريخ تونس. وكانت منظمة «هيومن رايتش ووتش» قد أصدرت قبل يوم تحذيراً للحكومة التونسية من الصمت عن الجرائم والاعتداءات التي يتعرض لها المبدعون والمعالم الثقافية. وتذكر كتب التاريخ أنّ حمل «عائشة» للقب «السيدة» هو تقليد موحدي (الدولة الموحدية)، فيما كان الحفصيون الذين سبقوهم في حكم تونس يحملون لقب «الشيخ»، وكانت عائشة الملقبة بـ«السيدة المنوبية» متعطشة الى العلم والمعرفة في زمن حرمت فيه المرأة من التعليم. وكانت ذات سلوك فيه الكثير من التحرر والخروج عن المألوف. لذلك كان العديد من التونسيين يعتبرونها «شاذة» و«مجنونة»، وكانت متأثرة بالولي الصالح سيدي أبي سعيد الباجي، وأبي الحسن الشاذلي، والأمير أبو محمد عبد الواحد. ويحكى أنّها كانت على قدر كبير من الجمال. وقد تحدث الشيخ أبو الحسن الشاذلي عن أول لقاء له بها على عتبة مغارته في ضواحي تونس، قائلاً «لقد طالعتني امرأة ذات وجه مشرق».
حازت السيدة المنوبية قلوب العامة الذين تعلقوا بها لشخصيتها الدافئة وروحها الجميلة. وقد أثارت مخاوف الحكام وبعض العلماء، ولذلك غادرت قريتها منوبة واستقرت في ضاحية منفولوري في الحي الذي جعله المخرج السينمائي محمد الزرن موضوعاً لشريطه «السيدة». كانت تتردد على مقامات المتصوفة المحيطة بمدينة تونس. كما عرفت بوفائها للتقاليد الموحدية وتشبّثها بها على غرار شيخها أبي الحسن الشاذلي، وهي تعتبر أحد رموز حاضرة تونس التي كانت مركزاً هاماً للمذهب الموحدي.
وظلت السيدة المنوبية طيلة سنوات موضوعاً لأعمال سينمائية وروائية وتوثيقية عن التصوف في تونس. جريمة حرق مقامها تضاف الى سلسلة الجرائم التي استهدفت المقامات الصوفية بما تمثله من حضور في الوجدان الجماعي للتونسيين، وكان دعاؤها الدائم وقت الضحى «أنت يا دليل الحيرانين أنت يا مطمئن الجولانين، أكرمني برؤيتك، واجعلني أدرك يقين وجودك»، فاستجاب الله دعاءها ورحلت في شهر نيسان (أبريل) ١٢٦٧، وأصبح ضريحها ملاذاً للبسطاء والموجوعين، وأطلق التونسيون على مقامها «مدفن السر».