في بداية الانتفاضة السورية، وجد فراس السوّاح نفسه مدفوعاً للتعبير عن رأيه في حراك الشارع. انطلاقاً من رصيده الفكري الذي راكمه خلال العقود الثلاثة الأخيرة. كتب على صفحته في فايسبوك أفكاراً تدعو إلى العقلانية، وعدم الانزلاق إلى مستنقع الحرب الطائفية. حذّر أيضاً من الشعارات التي تحرّض على تفتيت المجتمع السوري وانقسامه من خلال التسميات التي تُطلق على أيام الجمعة. لكنه فوجئ بحجم الهجوم المضاد، والتخوين الذي ناله جرّاء هذا الطرح، فما كان منه إلا أن أغلق صفحته على الفور، مودّعاً قرّاءه بقوله: «في زمن القتلة والجنون الجماعي لأمة بأكملها، تنسحب الحكمة إلى مخبئها، ويغدو صوت الحق مثل نهيق حمارٍ تائهٍ في الصحراء لا يسمعه أحد. لذا، فإن العاقل ينكفئ على نفسه ويختار الصمت».
المفكّر السوري الذي كان يحشد جمهوراً استثنائياً خلال ندواته، اكتشف فجأة أنه حيال هيجان جماعي لـ«مصادرة العقل»، هو الذي اشتغل طويلاً في كتبه وأبحاثه على «تحرير العقل» كما يقول. في تعليقاته على فايسبوك، تحدّث عن «الثورة المخترقة» من جهات عدّة، أبرزها الأصوليات الإسلامية، وثقافة الثأر المتأصلة في السيكولوجيا العربية، و«الجهات الشبحيّة» (التي تطلق التسميات على أيام الجمعة)، ومعارضة المقاعد الوثيرة من دون أن يستثني السلطة في قمع التظاهرات السلميّة وتأجيج الصراع.
يوضح رؤيته إلى الثورات العربية قائلاً: «الانتقال إلى الديموقراطية يحتاج إلى تمرينات شاقة. لا بدّ من التطوّر التدريجي، وإلا فلن نجد ثورةً ناجحة». هكذا عاد إلى مواقعه القديمة لاستكمال مشروعه حول «حفريات النصوص المقدّسة» بنظرة مغايرة تسعى إلى هدم «سلطة النص» وتحريره من قدسيته التاريخية: «أقرأ هذه النصوص بوصفها متناً أدبياً، متجاوزاً طغيانها المقدّس من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها، ووضعها في مقامٍ آخر».
لا يقف السوّاح عند باب اليقين مرّة واحدة في رحلة تشوبها الريبة من الإيديولوجيات الجاهزة. كتابه الأول «مغامرة العقل الأولى» (1978) أحدث ضجّة غير مسبوقة بين صفوف القراء. في أوج صعود الإيديولوجيات اليسارية، اختار فراس السوّاح حقلاً معرفياً مغايراً، هو دراسة الأسطورة وشعائر وطقوس الديانات القديمة في سوريا ووادي الرافدين، بحثاً عن وحدة التجربة الروحية. وإذا بالكتاب يشق طريقه منفرداً إلى الواجهة، في طبعات متتالية، لم تتوقف حتى اليوم. ينفي صاحب «الأسطورة والمعنى» (1997) أنه باحث في الأسطورة، بقدر اعتنائه بما وراء الأسطورة لجهة الحداثة واكتشاف الجذور وإطاحة سلطة النص لمصلحة «سلطة العقل» من خلال التفسير والتأويل. وهو بهذا المعنى باحث في تاريخ الأديان من موقع فينومينولوجي: يصف الظاهرة من دون الحكم عليها، على عكس ما تتكفل به الدراسات التي تنتمي إلى نقد الفكر الديني. ذلك أن الأساطير، حسبما يقول، هي حكايات مقدّسة، أبطالها من الآلهة، وتالياً، فهي المنبت الأول للنصّ الديني.
ابن العائلة الحمويّة الأزهرية التي استقرّت في حمص مطلع القرن المنصرم، عاش في فضاء تنويري، أتاح له أن يختار طريقه بنفسه. درس الاقتصاد في جامعة دمشق، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولم يكمل دراسته، إذ لم يجد جديداً في المنهاج. في مطلع شبابه كان قريباً من الإخوان المسلمين، ثم غرق في الماركسية، وأحسّ لاحقاً بقربه من القوميين السوريين. يقول مستدركاً: «لكنني لم أنتسب إلى أيّ من هذه الأحزاب يوماً. أقترب من الأفكار، وأبتعد عن الإيديولوجيات. الانتماء إلى الجماعة يؤدي إلى الذوبان».
اهتمامه بالتراث الإنساني القديم لا يعني تقديسه لهذا التراث، بقدر ما هو اتكاء على نصّ منجز بقصد العبور إلى ضفاف نص آخر. «ينبغي ألا نكون أسرى الماضي» يؤكد. هذه التصوّرات تضعه على مسافة من اشتغالات الآخرين على التراث، أمثال محمد عابد الجابري الذي كان يعمل في «دائرة ثقافية مغلقة»، والطيب تيزيني الذي عدّ منجزه «مجرد حركة مصطنعة في مياه راكدة». أما أدونيس، فهو لم يغادر منجزه في «الثابت والمتحوّل»، و«بقي متخندقاً في مذهبيته الضيّقة». يستثني السوّاح هنا جهود جورج طرابيشي في كتابه «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» لجهة التأويل المبتكر.
رحلته الطويلة بين أميركا وأوروبا مطلع السبعينيات، كانت عتبته الأساسية في تمزيق خرائط المكان المغلق، والانخراط في منظومة الثقافة العالمية، بحثاً وسجالاً وتفكيراً، وصولاً إلى نظريته الخاصة في ماهيّة الدين. يرشدنا إلى كتابه المفصليّ «دين الإنسان» (1994)، معتبراً إياه جوهر اشتغاله المعرفي. بالإضافة إلى عمله على الأسطورة العربية والإغريقية، اتجه فراس السوّاح شرقاً، ليميط اللثام عن أحد أهمّ كتب الحكمة الصينية، وهو «كتاب التاو»، أو «إنجيل الحكمة الصينية»، ذلك أنّ الثقافات الشرقية ظلّت شبه مجهولة في المكتبة العربية. مقولة من القرن الرابع قبل الميلاد للحكيم الصيني «لاو تسو»، وجّهت بوصلته إلى الروحانية الخالصة: «من غير أن تسافر بعيداً، تستطيع أن تعرف العالم كلّه. من غير أن تنظر من النافذة، تستطيع أن ترى طريق السماء». لعل صاحب «الوجه الآخر للمسيح» اكتشف الخيط السرّي بين التعاليم الروحية القديمة وعجلة العلم، رابطاً المعرفة بالسلوك، وإلا فنحن إزاء لعبة ذهنية لا طائل منها: «دقيقة واحدة من الصلاة الذهنية، أكثر فائدة من خمسين صلاة» يردّد باطمئنان.
ما يعني السوّاح في أبحاثه أولاً، هو طغيان الفكر الغيبيّ على العقل العربي. لكنه في المقابل، يعوّل على المنهج العلمي في تقليص هيمنة سلطة هذه الأفكار، من خلال استنطاق النصوص القديمة المبعثرة «بمنهجية صارمة قد تضع العالم العربي على عتبة أخرى في التفكير». هذا ما يشغله هذه الأيام. بعد صدور كتابه «الإنجيل برواية القرآن» (2011)، سوف يستكمل مشروعه بعناوين أخرى قيد الإنجاز، هي «ألغاز الإنجيل»، و«أثر القصص القرآني في المصادر الخارجية»، و«تنقيبات معرفية في النص التوراتي». قبل أن نغادره، يودّعنا بشكوى تتعلق بتزوير طبعات كتبه في بعض العواصم العربية، ويضيف ضاحكاً: «ماذا يفعل شخص مثلي يعيش من إيرادات كتبه؟».
5 تواريخ
1941
الولادة في حمص (سوريا)
1978
كتابه «مغامرة العقل الأولى» (دار الكلمة ــــ بيروت)، ليصدر لاحقاً في 13 طبعة
1994
كرّمته الجمعية التاريخية السورية
2011
صدور كتابه «الإنجيل بلغة القرآن» (دار علاء الدين ــ دمشق)
2012
استكمال مشروعه «حفريات في النصوص المقدّسة»
6 تعليق
التعليقات
-
لاشك أن الثورة في سوريا فضحتلاشك أن الثورة في سوريا فضحت المعارضة و صدمت النخبة عندما استفاق العقل السوري و تحرر من هرطقات الكثير من المثقفين الذين يعيشون على هامش أفكارهم في رحلة صوفية لا تقدم للمجتمع التطور و الحماية. مع تقديري لك أستاذ فراس أشكرك لأنك انسحبت و إلا كنت عطلت المسيرة و لم تقدم شيئا بدليل أنك و غيرك من المثقفين غرقتم في أفكاركم و تركتم المجتمع يغرق في الجهل و الاستبداد
-
قدرناقدرنا يا استاذنا الكبير ان نكون في اواخر الزمان لنرى ابناء شعبنا يقتل اخوته عشمنا فيك دوما ان تقاتل بالكلمة التي هي سيف لمن في ذرة عقل ودمتم
-
فراس السوّاح: المفكر السوري ينسحب في زمن الجنونفراس السوّاح: المفكر السوري ينسحب في زمن الجنون في زمن القتلة والجنون الجماعي لأمة بأكملها، تنسحب الحكمة إلى مخبئها، ويغدو صوت الحق مثل نهيق حمارٍ تائهٍ في الصحراء لا يسمعه أحد. لذا، فإن العاقل ينكفئ على نفسه ويختار الصمت وجميعنا في الطريق الى الخيبة لان وطن القتلة والتكفير ليس لنا فيه فسحة امل بعد اليوم وبتنا على مرمى حجر ان نحزم شنت السفر الى عالم ينتظره الخراب بعد جيل من الان وعندها نكون اضحينا من التاريخ ولو كنت اتمنى ان اورث لابني واخي بالانسانية وطن التاخي والرسالة لكنهم مجموعات قتل وتكفير وذبح وتقطيع وفظائع يندى لها العقل واذهلت البشرية فكيف لنا نحن ابناء الحياة ان نتعايش مع اولاد الرزيلة والالاغتصاب والوحشية الغير مسبوقة بالتاريخ ,,,,,عذرا منك سوريا هؤلاء ليسو ابناءك وليسو اخوتنا التي ربينا معهم في رحابك السمحة انهم ابناء الخنازير ,,,,لن انسى ان اقبل جبين جنود جيشنا(العربي السوري ) الباسل وقيادته الوطنية وقدرتهم على الصبر على التحمل والصصبر لاجل سوريا وشعب سوريا ,,,
-
التزام الباحثفي معركة كتلك التي تجري في سوريا من الواضح أنه من غير المفيد اتخاذ موقف. وطبعا لا مكان للتعقل. تبقى نزل السرور التشخيص الامثل للحالة السورية. كي لا نشط عن الموضوع أقول شكرا للأستاذ فراس السواح. شكل كتاب دين الانسان الذي ألفه منعطفا في نظرتي الى الحياة. ولكن اتمنى على أن لا أندم يوما على سلمية النظرة في زمن يكون (ولك هيدا معو مسدس وبتقلي ما معو حق؟). الشكر مرة ثانية لمن فتح أبواب أديان العالم أو بكلمة أخرى لمن فتح أبواب الدين الجمعي للعالم للقارئ العربي (ان وجد).
-
أنسان رائع و مفكر متأني وأنسان رائع و مفكر متأني و مثقف قل مثيله اليوم في ظل هذا الجنون في سوريا تحية لك استاذ فراس من قلوب و عقول السوريين
-
يا ليت الجميع انصت الىيا ليت الجميع انصت الى الاستاذ فراس من اول ايام الاحداث وحده وصف الموضوع بدقة من الايام الاولى وعرف الغث من الثمين يا ليت بعض من في الاخبار اهتم بما قاله انذاك بدل الركض وراء مي سكاف ومتفلسفي الثورة من ارباب مجلة الفرسان