«الجري مفيد لكتابة الشعر والحكايات»، يقول عبد الكريم الرازحي الذي لا يقدر على البقاء ساكناً في مكان واحد مدّة طويلة. لا يمكن أن تضبطه متلبّساً بالجلوس فترةً تفوق ساعة كاملة، كأنّه طفل لا يمكنك محاصرته في مساحة واحدة ضيّقة. كأنه خلق للحرية التي لا يساوم عليها بأي ثمن. «هي حياة واحدة فقط نعيشها. ولهذا ينبغي أن نخرج منها برأس مرفوع»، يؤكّد صاحب «طفل القوارير» (1999/ الهيئة العامة للكتاب في اليمن). في ديوانه ذلك، روى الرازحي سيرة الطفل الذي كانه في مدينة عدن (جنوب اليمن)، حيث نشأ ودرس المرحلة الإعدادية. «لكنني ما زلت طفلاً»، يقول لنا الرازحي بصوتٍ مرتفع، ونحن نقطع شارعاً مزدحماً يذهب بنا إلى المقهى الذي يحبّ الجلوس فيه ظهيرة كلّ يوم.
يميل الشاعر والصحافي اليمني دوماً إلى التحدّث بصوتٍ مرتفع، حتى وإن كان جالساً في مكان مغلق. نسأله عن السبب، فيجيب مباشرة «لا أدري!»، قبل أن يقول «عندي اعتقاد في هذا العالم المجنون، بأنّ الأصوات العالية أكثر قدرة على الإقناع». لكنّه لا يلبث أن يتراجع عن قوله، مؤكداً أنّه كان يمزح. صاحب «حنجرة الشعب» (1996) يرى الحياة «مزحة خفيفة لا ينبغي التعامل معها بجديّة تامّة». هي الطريقة ذاتها التي يتعامل بها مع القصيدة والشعر الذي دخله بديوان «الاحتياج إلى سماء ثانية وجحيم إضافي» (1985/ الآداب)، بنبرة حداثية لم تكن بعد مألوفة في اليمن، ما دفع نقاداً عرباً ويمنيين إلى أن يطلقوا عليه لقب «سيد قصيدة النثر في اليمن».
لقد كان ذلك الديوان مجرّد خطوة أولى على طريق قصيدة النثر، أتبعها بديوان «نساء وغبار» (1991/ الفارابي). يكفي أن نذكّره بهذا الديوان كي يرفع صوته عالياً، ويقرأ مقطعاً منه: «أقسم/ لو لم تخرج هذه الليلة/ سألغم هذا السور بقلبي/ سأبيح مدينة صنعاء لقبائل حبي/ وأسدّ جميع مداخلها بوباء العشق وطاعون الصبّ». هي سخرية واضحة هنا، أكّدها الناقد العراقي حاتم الصكر في كتابه «قصيدة النثر في اليمن ــــ أصوات وأجيال»، حيث كتب أنّ قصيدة الرازحي ملفوفة بـ«روح السخرية الحزينة، سخرية عابثة بألم ويأس». لكنّها حالة من السخرية والتصالح مع الذات، لم يصل إليها شاعرنا إلّا بعد تقلبات كثيرة مرّ بها منذ كان راعياً للأغنام في قريته حيفان قرب تعز (جنوب صنعاء)، قبل أن ينتقل صغيراً إلى مدينة عدن. هناك، درس الإعدادية وعمل خبازاً في معمل تابع لعمّه. انتقل بعدها إلى صنعاء لدراسة الثانوية، وجندياً في الجيش اليمني. التحق بعد ذلك بـ«جامعة صنعاء» لدراسة الفلسفة وعلم الاجتماع. بعد تخرجه، عمل مديراً لإدارة المطبوعات في وزارة الإعلام، ثمّ مديراً لتحرير مجلة «اليمن الجديد» التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة اليمنية، قبل أن يستقر في عمله باحثاً متفرغاً في «مركز الدراسات والبحوث». «خرجت سالماً بعد كل هذه التقلبات»، يقول لنا قبل أن يتراجع كعادته مضيفاً: «بعض الجراح لم تندمل بعد، لكنّ الوقت كفيل بها».
نحاول الاقتراب من تلك الجراح التي لم تندمل بعد، لكن صاحب «الشيخة زعفران ــــ السيرة الشعبية لقرية العكابر» (2005/ إصدار خاص) يتعمّد الهرب إلى مناطق أخرى. يرمي بصره نحو نسخة من ديوانه الشعري «الفتوحات الهندية» الصادر قبل أيام قليلة، وهو عمل يسرد فيه تفاصيل رحلته إلى أرض الهند قبل عامين. حتّى هذه الملحمة في بلاد الهند لا تسمح له بتناسي تلك «الجراح». يحكي لنا قصة صديقه الذي دخل المعتقل بعد أيام قليلة على تحقيق الوحدة اليمنية بين شطري اليمن (1990) ولم يخرج منه إلا قتيلاً، «كان ضحية وشاية». يقول صاحب «موت البقرة البيضاء» إنّ هذه الوحدة لم تكن بطريقة مدروسة، وجرى طبخها سريعاً، لهذا لم تكمل عامها الرابع إلا باندلاع حرب قاسية بين الطرفين. يتذكر ما كتبه عن ذلك الرفيق الذي قضى في المعتقل: «يتقاتلون، وأنت تبكي، يتصالحون، وأنت تضحك، يتوحدون، وأنت وحدكْ». وظلّت هذه القصيدة تتردّد بصورة دائمة على لسان أدباء اليمن، رغم أنّ أغلبهم ليسوا على علم بالحادثة التي تعبّر عنها.
ليس أدباء اليمن فقط من يردّدون ما يكتبه الرازحي. واصل انقلاباته في الحياة، ليترك قصيدة النثر متوجهاً نحو القصيدة الشعبية البسيطة المُعتمِدة على الوزن والإيقاع والتراكيب السهلة، ما يجعلها متاحة للحفظ بيسر. «لقد وقعت ضحية خديعة كبرى»، يقول شارحاً قراره بترك قصيدة النثر. «لقد بدأت السُلّم من نهايته ولم أصعده من أوله». مؤكداً أنه أضاع وقتاً طويلاً في كتابة قصيدة لا يفهمها الناس العاديون. وهذا اعتراف يتسق تماماً مع أفكاره العامة المنحازة إلى أولئك الناس.
اتجاهه إلى كتابة المقالة الساخرة ــــ يُعدُّ أحد كبار كُتّابها في اليمن ــــ دليل على ذلك الانحياز. يبادله الناس العاديون ذلك بالمواظبة على تتبّع ما ينشره في أي صحيفة يداوم على الكتابة فيها. مقالته الأسبوعية الساخرة كفيلة بنفاد أعداد تلك الصحيفة في وقت قياسي، فيعمد الباعة بعد ذلك إلى طباعة مقالته على آلة نسخ، وبيعها بشكل منفرد.
الإقبال الشعبي نفسه كانت تلقاه أعماله القصصية والروائية القصيرة، إذ كانت تحوّل إلى أعمال مسرحية على أيدي فرقة المسرح الوطني، قبل أن يتفرق شمل هذه الفرقة بعد الوحدة اليمنية. وعن هذا المسرح، يحكي الرازحي بحزن عميق عن ثقافة الإقفال التي طاولت كلّ شيء.«لقد توقعنا أن يزداد عدد الفرق المسرحية والمجلات الثقافية عمّا كان قبل الوحدة، لكنهم أغلقوا كل المنافذ والأبواب الثقافية»، يقول قبل أن يرفع صوته مجدداً: «حُزنكَ ضيفُكَ/ في الليلِ يجيءُ/ يُضيءُ البيتَ/ من الله يقرِّبُكَ الحزنُ/ اللهُ كريمٌ يهبُ الحزنَ لمن شاءَ بغير حسابْ/ قلبٌ لم يُعْمَر بالحزنِ خرابْ/ والروحُ خرابه».
نسأله: هل لا يزال هناك أمل! يردُّ بنبرةٍ واثقة: «نعم». قبل أن يُسهب بفرحٍ ظاهر على وجهه، وهو يحكي عن الأمل الذي خلقه شباب اليمن في النفوس، بخروجهم إلى الشوارع مطالبين بإسقاط نظام علي عبد الله صالح. «لقد أعادوا الاعتبار إلى حياتنا التي اعتقدنا أنّها وصلت إلى فصلها الأخير»، يقول شاعرنا الذي انشغل في الأشهر الأخيرة بالكتابة عن «شباب الورد في الساحات». مع ذلك، لم يتوانَ عن نقد بعض الممارسات في تلك «الساحات»، من قبل أفراد تابعين لجماعات دينية متطرّفة، أقدمت على ارتكاب أعمال عدائية في حق ثائرات يساريات بدعوى «حرمة الاختلاط». «هؤلاء عامل معرقل لسير عجلة الثورة نحو تحقيق أهدافها كاملة»، يقول صديقنا الذي تعرض للتكفير مراراً على أيدي تلك الجماعات بسبب كتاباته الصحافية. لكنه يعود ثانية إلى ابتسامته الساخرة، قائلاً بصوت مرتفع: «لكنّنا تخلصنا من علي عبد الله صالح، وهذا ليس إنجازاً عادياً».




5 تواريخ

1952
الولادة في قرية حيفان ــ مدينة تعز
(اليمن الشمالي سابقاً)

1979
تخرج من شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع في «كلية الآداب/ جامعة صنعاء»

1985
صدور ديوانه النثري الأول «الاحتياج إلى سماء ثانية وجحيم إضافي» (دار الآداب)

2002
ظهور اسمه في لائحة اغتيالات أصدرتها جماعة دينيّة متطرّفة تضمّ 36 اسماً لمثقّفين وأدباء وكتّاب يمنيّين

2012
صدور ديوانه «الفتوحات الهنديّة»(بيروت/ إصدار خاص)